مقصد الطالبين
لله تعالى
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين.
وبعد،
67 – س: اذكر الدليلَ على وجودِ كتابٍ فوقَ العرشِ.
ج: فيما مضى قلنا إنه يوجد فوق العرش مكان لأن بعض المشبهة زعموا أن الله تبارك وتعالى فوق العرش حيث لا مكان على زعمهم فوق العرش يوجد مكان كما ثبت ذلك في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
الدليلُ عَلَى وُجُودِ جسمٍ مخلوقٍ فَوْقَ العَرْشِ وجُودُ الكتابِ الذي أخرجَ حديثهُ البخاريُّ والنسائيُّ في السننِ الكبرى وغيرُهما، ولفظ روايةِ ابن حبّانَ: “لمَّا خلقَ الله الخلقَ كتبَ في كتابٍ يكتبُهُ على نفسِهِ معناه وعد وهو مرفوعٌ فوقَ العرشِ إن رحمتي تَغلبُ غَضَبي” .
فإن حاوَلَ محاوِلٌ أن يؤوّلَ «فوق» بمعنى دون قيلَ لهُ: تأويلُ النصوصِ لا يجوزُ إلا بدليلٍ نقليّ ثابتٍ أو عقليّ قاطِعٍ وليس عندهم شىءٌ من هـذينِ، ولا دليلَ على لزومِ التأويلِ في هذا الحديثِ، كيفَ وقد قالَ بعضُ العلماءِ إن اللوحَ المحفوظَ فوقَ العرشِ لأنه لم يَرد نصٌّ صريحٌ بأنه فوق العرشِ ولا بأنه تحتَ العرشِ فبقي الأمرُ على الاحتمالِ أي إحتمالِ أن اللوحَ المحفوظ فوقَ العرشِ وإحتمالِ أنه تحتَ العرشِ، فَعَلى قولهِ إنهُ فوقَ العرشِ يكون جعلَ اللوحَ المحفوظَ معادِلا لله أي أن يكونَ الله بمحاذاةِ قسمٍ منَ العرشِ واللوحُ بمحاذاةِ قسمٍ مِنَ العرش وهذا تشبيهٌ لهُ بخلقِهِ لأن محاذاةَ شىءٍ لشىءٍ مِن صفاتِ المخلوقِ.
[68] س: ما الدليلُ على أن الكتابَ الذي فوقَ العرشِ فوقيتُهُ حقيقية؟
ج: مما يدل على أن ذلك الكتاب فوق العرش فوقيةً حقيقيةً لا تحتمل التأويل الحديث الذي رواه النّسائيُّ في السنن الكبرى: “إنَّ الله كتَب كتابًا قبل أن يخلُقَ السـمـواتِ والأرض بألفي سنة فهوَ عندَهُ على العرشِ وإنه أنزلَ من ذلك الكتاب ءايتين ختم بهما سورة البقرةِ» ، وفي لفظ لمسلم: «فهو موضوعٌ عندهُ” فهذا صريحٌ في أنَّ ذلكَ الكتاب فوقَ العرشِ فوقيةً حقيقيةً لا تحتَمِلُ التأويلَ.
ومعنى عنده هذه العندية هي عندية التشريف وليس معناها أن الله تبارك وتعالى له مكان فوق العرش وإن هذا لا يجوز على الله قال الله تعالى حكاية عن ءاسية بنت مزاحم:{قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} عندك أي في محل كرامتك في المكان الذي هو مشرف عندك في الجنة وليس معناه أن الله تبارك وتعالى له مكان في الجنة فهذا لا يجوز على الله.
69 – س: ما معنى كلمةِ «عند» الواردةِ في لفظِ مسلمٍ للحديثِ السابقِ ذكره؟
ج: كلمةُ «عندَ» للتشريفِ ليسَ لإثباتِ تحيزِ الله فوقَ العرشِ لأنَّ «عندَ» تُستعمَلُ لغيرِ المكانِ قالَ الله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ *مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} (سورة هود) إنّما تدلُّ «عندَ» هنا أنَّ ذلكَ بعلمِ الله وليسَ المعنى أنَّ تلكَ الحجارة مجاورةٌ لله تعالى في المكَان. فمَن يحتجُّ بمجرّدِ كلمةِ عند لإثباتِ المكانِ والتَّقارُبِ بينَ الله وبينَ خلقِهِ فهوَ من أجهَل الجاهلينَ، وهل يقولُ عاقلٌ إنَّ تلكَ الحجارةَ التي أنزلها الله على أولئكَ الكفرةِ نَزَلَت مِنَ العرشِ إليهم وكانت مكوّمَةً بمكان في جنبِ الله فوقَ العرشِ على زعمِهم.
[70] س: اذكرْ حديثين ينقضانِ على المشبهةِ حَمْلَهم حديثَ الجاريةِ على ظاهره.
ج: لأن هؤلاء المشبهة المجسمة يقولون نحن نأخذ بحديث الجارية على زعمهم لإثبات مكانًا لله في السماء ويقولون لا يجوز التأويل لا يجوز التأويل والواقع أنهم يؤولون ما لا يوافق هواهم ويتركون تأويل ما يوفق هواهم مما يوهم التشبيه.
رَوى البُخَارِيُّ أنَّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: “إِذَا كَانَ أحَدُكُم في صَلاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلا يَبْصُقَنَّ في قِبْلَتِهِ ولا عَنْ يَمِيْنِهِ فَإنَّ رَبَّه بَيْنَه وبَيْنَ قِبْلَتِهِ” ، وهذا الحديثُ أقْوى إسْنادًا منْ حَدِيثِ الجَارِيَةِ.
فهذا إذا أُخذ على الظاهر كما هم يزعمون يجعلون الله تبارك وتعالى في الأرض بين المصلي وبين الكعبة الشريفة ماذا يفعلون هنا يقولون لا نأخذه على الظاهر فإذًا ايضًا يقال حديث الجارية لا يحمل على الظاهر.
وأَخْرَجَ البُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبي مُوسَى الأشْعَرِيِّ أنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: “ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُم فإنَّكُم لا تَدْعُوْنَ أصَمَّ ولا غَائِبًا، إنما تَدْعُونَ سَمِيْعًا قَرِيبًا، والذي تدعونَهُ أقْربُ إلى أحَدِكُم مِن عُنُقِ رَاحِلَةِ أحدِكُم“. هل يقولون إن الله بذاته بين الإنسان الذي يدعو بين الإنسان الذي يذكر بين الإنسان الذي يهلل أو يسبح وبين عنق الراحلة التي هو عليها هل يقولون ذلك.
فَيقالُ للمعتَرِضِ: إذَا أخَذْتَ حَدِيثَ الجَارِيَةِ علَى ظَاهِره وهـذَين الحدِيثَينِ عَلى ظَاهِرهما لَبَطَلَ زَعْمُكَ أنَّ الله في السَّماءِ وإنْ أوَّلْتَ هـذَيْنِ الحَدِيثَيْنِ ولَم تُؤَوِّلْ حَدِيثَ الجَارِيَةِ فَهَذَا تَحكُّمٌ – أي قَوْلٌ بِلا دَلِيل – إنما هو قول بالهوى، ويَصْدُقُ عَلَيْكَ قَولُ الله في اليَهُودِ {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (سورة البقرة) . وكَذَلِكَ مَاذا تَقُولُ في قَولِه تَعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (سورة البقرة) ظاهرها يوهم أن الله في الأرض لأن الشخص الذي يكون مصليا أين يصلي في الأرض أين يولي وجهه إلى أين يتوجه إلى مكان في الأرض في هذه الأرض فَإنْ أَوَّلْتَه فَلِمَ لا تُؤَوّلُ حَدِيثَ الجاريةِ. وقَد جَاءَ في تَفسِيرِ هَذِهِ الآيةِ عنْ مُجاهِدٍ تِلميذِ ابنِ عَبَّاسٍ: «قِبْلَةُ الله» يعني الذي يصلي النافلة وهو مسافر ماشيًا أو على الدابة إذا أراد صلاة النافلة توجه إلى القبلة نوى الصلاة وكبّر ثم يمشي إلى جهته التي يقصدها في سفره الله يتقبل منه تلك الصلاة فتلك الوجهة التي توجهتم إليها في سفركم على الدابة أو مشيًا في صلاة النافلة جهة يتقبل الله فيها منكم هذه الصلاة، فَفَسَّرَ الوَجْهَ بِالْقِبْلَةِ، أيْ لِصَلاةِ النَّفْلِ في السَّفَرِ عَلى الرَّاحِلَةِ.
[71] س: ما معنى حديثِ: “الراحمونَ يرحمُهُمُ الرَّحْمـن ارحَمُوا من في الأرضِ يرحمْكُمْ من في السماء”.؟
ج: الحَدِيثُ الذِي رَواهُ التّرْمذِيُّ وهُوَ: “الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُم الرّحمـنُ ارْحَمُوا مَنْ في الأرْضِ يَرْحَمْكُم منْ في السَّمَاءِ”، وَفي رِوَايَةٍ أُخْرَى “يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ”، فَهَذِهِ الرّوَايَةُ تُفَسّرُ الرّوايَةَ الأُوْلَى لأنَّ خَير مَا يُفسَّرُ بهِ الحَدِيْثُ الوارِدُ بالواردِ كَما قَالَ الحَافِظُ العِراقيُّ في ألفِيَّتِهِ: وخيرُ ما فسّرتَه بالواردِ معناه أحسن ما يفسر به الوارد الوارد. ثمّ المرادُ بأهْلِ السَّماءِ المَلائِكةُ الله لا يسمى أهل السماء ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء أي الملائكة يدعون لكم يستغفرون لكم، ذَكَرَ ذلكَ الحَافِظُ العِراقيُّ في أمَالِيّه عَقِيبَ هَذَا الحدِيثِ، ونص عبارته: وَاسْتدلَّ بقَوْلِه: “أَهْلُ السَّمَاءِ” عَلَى أنَّ المُرَادَ بِقَوله تعالى في الآية {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} الملائِكَةُ” اهـ، لأنه لا يقال لله «أَهْلُ السَّمَاءِ» ، و«مَنْ» تَصلُح للمُفرَد وللجَمْع فلا حجّةَ لهم في الآية، ويقال مثلُ ذلك في الآيةِ التي تَليْها وهي {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} فـ «مَن» في هذه الآيةِ أيضًا أهلُ السماءِ أي الملائكة، فإن الله يسلطُ على الكفارِ الملائكة إذا أرادَ أن يُحِل عليهم عقوبَتَه في الدنيا كما أنهم في الآخرةِ هم الموكلونَ بتسليطِ العقوبةِ على الكفارِ لأنهم خزنَةُ جهنم وهم يَجرُّونَ عنُقًا من جهنمَ إلى الموقفِ ليرتاعَ الكفارُ برؤيتهِ.
وتلكَ الروايةُ التي أوردَها الحافظُ العراقيُّ في أماليّه هكذا لفظُها: “الراحمونَ يرحمهُم الرحيمُ ارحموا أهلَ الأرضِ يرحَمْكُم أهلُ السماء”.
[72] س: اذكرْ حديثين يهدِمانِ على المشبهةِ قولَهم الله يسكنُ السماء.
لأن الله تعالى موجود بلا مكان لا يقال كما يقول بعض الناس الله في سما أو الله يسكن السماء أو الله موجود في السماء كل هذه الألفاظ مخالفة للشرع.
ج: لَو كَانَ الله سَاكِنَ السَّمَاءِ كَما يَزْعمُ البَعْضُ لَكانَ الله يُزَاحِمُ الملائِكةَ وهَذا مُحالٌ، فَقَد ثَبَتَ حَديثُ أنّه صلى الله عليه وسلم قال: “ما في السَّمـواتِ مَوْضِعُ أَرْبَعِ أصَابِعَ إِلا وفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أوْ رَاكِعٌ أو سَاجِدٌ“. فيكون على مقتضى كلام المشبهة إن الله يسكن السماء إن الله يزاحم الملائكة في أقل من هذا الموضع مقدار أربع أصابع.
وكَذَلِكَ الحَديثُ الذي رَواهُ البُخَاريُّ ومُسْلِمٌ عَن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ أنَّ الرّسولَ صلى الله عليه وسلم قال:”ألا تأْمَنُوني وأَنَا أَمِينُ مَنْ في السَّمَاءِ يَأْتيني خَبرُ مَن في السَّمَاءِ صَبَاحَ مَسَاءَ” فالمقْصُودُ بِه الملائِكةُ أَيضًا، وإِنْ أُرِيد بِه الله فَمعْنَاهُ الذي هُوَ رَفِيعُ القَدْرِ جدًّا.
[73] س: ما معنى قولِ زينبَ بنتِ جحشٍ:” زَوَّجَكُنَّ أهاليكنَّ وزوجني الله من فوقِ سبعِ سمـوات”؟
ج: حَدِيْثُ زَيْنبَ بنْتِ جَحْشٍ زَوْجِ النّبي صلى الله عليه وسلم أنَّها كَانَت تقُولُ لنساءِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم:”زَوّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِي الله منْ فَوقِ سَبْعِ سَـمـواتٍ” فَمعْنَاهُ أَنَّ تَزوّجَ النّبيّ بِها مُسَجَّلٌ في اللّوحِ المحفُوظِ وهذه كتابةٌ خاصةٌ بزينبَ ليست الكتابة العامة، الكتابةُ العامةُ لكلّ شخصٍ فكلُّ زواجٍ يحصلُ إلى نهايةِ الدنيا مسجلٌ في اللوح المحفوظ، واللّوحُ فَوقَ السَّـمـواتِ السَّبْعِ.
[74] س: ما معنى قولهِ عليه السلام في الحديثِ:”إلا كانَ الذي في السماءِ سَاخطًا عليها”.؟
والحديث الذي فيه:”والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو إمرأته إلى فراشه فتأبى عليه أي بلا عذر إلا كان الذي في السماء ساخط عليها“.
الحديث فيُحمل أيضًا على الملائكة بدليل الرواية الثانية الصحيحة والتي هي أشهر من هذه وهي لعنتها الملائكة حتى تصبح رواها ابن حبان وغيره.
[75] س: ماذا يقالُ في حديثِ «ربنا الذي في السماء تقدس اسمك»؟
ج: حَدِيثُ أَبي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النّبي صلى الله عليه وسلم قالَ: «رَبَّنَا الذي في السَّمَاءِ تَقَدَّسَ اسْمُكَ» لَم يَصِحَّ بَلْ هُوَ ضَعِيفٌ كَمَا حَكَم عَلَيْهِ الحافظ ابنُ الجَوْزِيّ، وَلَوْ صَحَّ فَأَمرُهُ كما مَرَّ في حَدِيثِ الجارِيَةِ.
[76] س: ماذا يقالُ في حديثِ «إن الله على عَرْشه»؟
ج: حَدِيثُ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِم عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الله عَلى عَرْشِهِ فَوْقَ سَـمـواتِه، وسَـمـواتُه فَوْقَ أَرَاضِيْهِ مِثْلَ القُبّةِ» لَم يُدْخِلْهُ البُخَارِيّ في الصَّحِيحِ فَلا حُجَّةَ فِيهِ، وَفي إسْنادِهِ مَنْ هُوَ ضَعِيفٌ لا يُحْتَجُّ بِه، ذَكَرَه ابنُ الجَوْزِيّ وغَيْرُه والذي هو متفق عليه عند العلماء أن الصفة لله تبارك وتعالى لا تثبت بالحديث الضعيف ولا تثبت بقول الصحابي ولا تثبت بقول التابعي إنما تثبت الصفة لله تبارك وتعالى بالآية القرءانية بنص القرءان أو بالحديث الصحيح المتفق على توثيق راواته بالحديث الصحيح الذي اتفق على توثيق رواته فإذًا لا تثبت الصفة لله لا بالحديث الضعيف ولا بقول صحابي ولا بقول تابعي.
والحاصل من هذا أن الله تبارك وتعالى الذي هو خالق كل شىء وكان موجودًا قبل كل شىء في الأزل سبحانه وتعالى ولم يزل كما كان في الأزل موجودًا بلا جهة ولا مكان فإن الله تبارك وتعالى لا يتغير والعوام يقولون وهي كلمة صحيحة سبحان الذي يغير ولا يتغير.
هللوا وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفروا للمؤمنين والمؤمنات.