مقصد الطالبين
لله تعالى
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين.
وبعد، لله تعالى
تَنزيهُ الله عَن المَكَانِ
ويتضمن ستة وعشرين سؤالا [51]
س: ما الدليلُ على تنزيهِ الله عن المكان؟
ج: الله تعَالى غَنِيٌّ عن العَالمينَ أي مُسْتَغنٍ عَن كُلّ ما سِوَاهُ أَزَلا وأَبَدًا لأن الله تعالى كان موجودًا في الأزل قبل وجود الخلق لا يحتاج إليهم وما زال سبحانه وتعالى بعد خلق الخلق موجودًا لا يحتاج لأحد موجودًا بلا جهة ولا مكان ولا يَحْتَاجُ لأحد لأن الاحتياج دليل العجز والعاجز لا يكون ءالهًا فلا يحتاج إلى مكان يتحيز فيه أو شىء يحل به أو إلى جِهَةٍ لأنه ليس كشىءٍ منَ الأشياء ليس حجمًا كثيفًا الحجم الكثيف ما يضبط باليد ما يمسك باليد كإلانسان والشجر والحجر والأرض والحجم اللطيف ما لا يضبط باليد لا يمسك باليد كالنور والروح والجن والملائكة ولا حجمًا لطيفًا الله تعالى خالق الأحجام الكثيفة وخالق الأحجام اللطيفة فليس حجمًا بالمرة سبحانه وتعالى والموجود في مكان أو جهة يكون حجمًا إما لطيفًا وإما كثيفًا نور الشمس لا يغطي كل الأرض بعض الأماكن تكون منورة في الأرض وبعض الأماكن فيها ظلام الظلام جسم لطيف والنور جسم لطيف هذا له مكان وهذا له مكان الله تبارك وتعالى خالق الأجسام الكثيفة واللطيفة فلا مكان له ولا جهة.
[52] س: لماذا لا يجوزُ على الله التحيز؟
ج: التحيزُ من صفاتِ الجسمِ الكثيفِ واللطيفِ فالجسمُ الكثيفُ والجسمُ اللطيفُ متحيزٌ في جهةٍ ومكانٍ قال الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (سورة الأنبياء) فأثبتَ الله تَعَالى لِكُلّ مِنَ الأربَعَةِ التَّحَيّزَ في فلكِهِ وهوَ المَدَار، والله لا تَجوزُ عليهِ صِفَاتُ الخَلْقِ.
[53] س: ما هو أوضح دليل من القرءان في تنزيه الله عن المكان والحيز والجهة؟
ج: يَكفِي في تَنزِيهِ الله عن المَكَانِ والحَيّزِ والجِهَةِ قَولُه تَعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (سورة الشورى) لأنه لَو كَانَ لَه مَكانٌ لَكَانَ لَهُ أَمثَالٌ وأبعَادٌ طُولٌ وعَرْضٌ وعُمْقٌ، ومَنْ كَانَ كذَلِكَ كَانَ مُحْدَثًا مُحْتَاجًا لِمَنْ حَدَّهُ بِهَذَا الطُّولِ وبِهَذَا العَرْضِ وبِهَذَا العُمْقِ، هذَا الدليلُ منَ القُرءان {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أصرح وأوضح ءاية في تنزيه الله عن مشابهة الخلق.
[54] س: ما الدليلُ من الحديثِ على تنزيهِ الله عن المكان؟
ج: أمَّا مِنَ الحَدِيثِ فما رَواه البُخَارِيُّ وابنُ الجارودِ والبَيْهقيُّ بالإسْنادِ الصَّحِيحِ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: “كانَ الله ولَم يكن شَىءٌ غَيرُهُ”، ومَعناهُ أنَّ الله لم يَزَلْ مَوْجُودًا في الأَزَلِ لَيسَ مَعَهُ غيرُه لا مَاءٌ ولا هَواءٌ ولا أَرْضٌ ولا سَماءٌ ولا كُرْسيٌّ ولا عَرْشٌ ولا إنْسٌ ولا جِنٌّ ولا مَلائِكَةٌ ولا زَمَانٌ ولا مَكانٌ ولا جِهاتٌ يعني في الأزل لم يكن إلا الله والله لا يتغير بعد أن خلق الأماكن والجهات والعرش والكرسي والسموات وكل هذه المخلوقات لم يزل كما كان في الأزل موجودًا بلا جهة ولا مكان، فَهُو تَعَالَى مَوجُودٌ قَبْلَ المَكَانِ بِلا مَكَانٍ، وهُو الّذي خَلَقَ المَكَانَ فَلَيسَ بِحَاجَةٍ إلَيهِ، وهَذا ما يُسْتَفادُ منَ الحدِيثِ المَذْكُورِ.
وقالَ البيهقيُّ في كتابِه «الأسماءُ والصّفَاتُ»: “اسْتَدَلَّ بَعْضُ أصْحَابِنا في نَفْي المَكَانِ عَنْهُ بِقَولِ النَّبي صلى الله عليه وسلم: “أَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيسَ فَوقَكَ شَىءٌ وأَنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ دُوْنَكَ شىءٌ“، وإذَا لَم يَكُن فوقَهُ شَىءٌ وَلا دُونَهُ شَىءٌ لَم يَكُن فِي مَكَانٍ» اهـ.
وهَذَا الحَدِيثُ فِيه الرّدُّ أَيضًا عَلى القَائِلينَ بالجِهَةِ في حَقّهِ تَعَالَى، وقَد قَالَ الإمام عليٌّ رضيَ الله عنه: “كانَ الله ولا مكانَ وهوَ الآنَ على ما عليْهِ كَانَ” رواهُ أبو منْصُورٍ البَغْدَادِيُّ.
[55] س: ما هو محور الاعتقاد الصحيح؟
ج: لَيْسَ مِحْورُ الاعْتِقَادِ علَى الوَهْمِ بَل عَلَى ما يَقْتَضِيهِ العَقْلُ الصَّحِيحُ السَّلِيمُ الذي هُوَ شَاهِدٌ للشَّرعِ، وذَلِكَ أن المحدودَ محتاجٌ إلى من حدَّه بذلكَ الحدّ فلا يكُون إلـهًا الشىء الذي له حد يعني له كمية يحتاج لمن جعله على هذه الكمية بدل سواها مما يجوز عليه من أكبر إلى أصغر فإذا هو محتاج مفتقر لغيره والمفتقر لغيره لا يكون ءالهًا.
الله مستغن عن كل ما سواه لا يحتاج لغيره لا يفتقر إلى شىء سبحانه وتعالى. لأن بعض الناس يقولون لك كيف نعتقد موجودًا لا مكان له لا نستطيع أن نتصور ذلك الاعتقاد الصحيح لا يُبنى على التوهم ليس مبنيًا على التصور نحن يوجد في الخلق ما لا نتصوره ونؤمن به وهو أنه كان وقت لم يكن فيه نور ولا ظلام قبل أن يخلق الله النور والظلام كما قال تعالى:”وجعل الظلمات والنور” نؤمن ونصدق ونحن على يقين أنه كان وقت لم يكن فيه ظلام ولا نور ولا نتصور ذلك فنحن نؤمن ونعتقد يقينًا أن الله موجود لا جهة له ولا مكان الله سبحانه وتعالى لا يتوهم في القلوب لا يتمثل في القلوب لا يتصور الله سبحانه وتعالى خالق المتصورات خالق هذه المخلوقات فليس له صورة ولا هيئة ولا شكل ليس كمثله شىء مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك فيقال لهذا الإنسان كما اعتقدت وصدقت وعلمت أن الله كان موجودًا قبل خلق المكان والجهات بلا مكان ولا جهة كذلك تعتقد وتصدق وتوقن أنه ما زال موجودًا بلا مكان ولا جهة بعد خلق هذه المخلوقات.
[56] س: ما الدليلُ العقليُّ على تنزيهِ الله عن المكان؟
ج: كَمَا صَحَّ وجُودُ الله تَعَالَى بِلا مَكَانٍ وَجِهَةٍ قَبْلَ خَلْقِ الأَمَاكِنِ والجِهَاتِ فَكَذَلِكَ يَصِحُّ وجُودُهُ بَعْدَ خَلْقِ الأَمَاكِنِ بِلا مَكَانٍ وجِهَةٍ، وهَذَا لا يكونُ نَفيًا لِوجُودِهِ تَعَالى كما زعمت المشبّهةُ والوهابيّةُ وهم الدُّعاةُ إلى التّجسيمِ في هذا العصرِ.
[57] س: ما حكمُ من يقولُ:”الله تعالى في كلّ مكان”؟
ج: حُكْمُ مَن يَقُولُ: “إنَّ الله تَعالى في كُلّ مَكَانٍ أَو في جَمِيع الأَمَاكِنِ” التَّكْفِيْرُ إذَا كَانَ يَفهَم من هَذِهِ العِبَارَةِ أنَّ الله بذاتِهِ مُنْبَثٌّ أوْ حَالٌّ في الأَمَاكِنِ، أَمَّا إِذَا كَانَ يَفْهَمُ مِنْ هَذِهِ العِبَارَةِ أَنَّهُ تَعَالى مُسَيطِرٌ عَلَى كُلّ شَىءٍ وعَالِمٌ بكُلّ شَىءٍ فلا يكفُرُ، وهَذَا قَصْدُ كَثِيْرٍ مِمَّن يَلْهَجُ بِهَاتَيْن الكَلِمَتَينِ، ويَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُمَا على كُلّ حَالٍ، لأنهما ليستا صادرتين عن السّلَف بل عن المعتزلة ثم استعملهما جهلَةُ العَوامّ.
يعني لا يقال الله موجود في كل مكان ولا يقال الله موجود في كل الوجود يقال الله موجود بلا مكان ولا جهة سبحانه وتعالى لكن جرت على ألسنة كثير من العوام فينظر إلى ما يفهمه الشخص الذي يقول الله موجود في كل الوجود أو موجود في كل مكان إن كان يفهم أن الله حال منبث في كل مكان فهذا كفر أما إن كان يفهم أن الله عالم بكل مكان لا تخفى عليه خافية فلا يكفر لكن هذا اللفظ لا يجوز.
[58] س: ما تعريفُ المكان؟
ج: المَكَانُ هُوَ الفَرَاغُ الذي يَشْغَلُهُ الحَجْمُ، والحَجْمُ مَخْلُوقٌ فإذَنْ مُستَحِيلٌ أنْ يكونَ الله في مَكانٍ أو في جَميعِ الأماكنِ لأنهُ لَيْسَ حَجْمًا لأن الله خالق الأحجام {وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} فكيف يكون حجمًا كخلقه لا يجوز.
[59] لماذا نرفعُ أيديَنا إلى السماءِ في الدعاء؟
ج: لأن بعض الناس يتسائل إذا كان الله ليس ساكنًا السماء لمَ نرفع أيدينا إلى السماء عند الدعاء ونَرفَعُ الأَيدِيَ في الدُّعاءِ للسَّمَاءِ لأَنَّها مَهْبِطُ الرَّحمَاتِ والبَركاتِ ولَيْسَ لأَنَّ الله مَوجودٌ بِذَاتِهِ في السَّمَاءِ، كَما أنّنَا نَسْتَقْبِلُ الكَعْبَة الشَّرِيْفَة في الصَّلاةِ لأَنَّ الله تَعَالَى أَمَرَنَا بِذَلِكَ وَلَيْسَ لأَنَّ لَهَا مِيزَةً وخُصوصِيَّةً بسُكْنى الله فيها.
ويكْفُر من يَعتقدُ التّحيُّزَ لله تَعالى، أوْ يَعتقِدُ أنَّ الله شَىءٌ كالهَواءِ أوْ كالنُّورِ يَملأُ مكَانًا أو غُرفةً أو مَسْجدًا ونسمّي المسَاجِدَ بُيوتَ الله لا لأنَّ الله يَسكنُها بل لأنَّها أمَاكنُ مُعَدَّة لذكرِ الله وعبادتِهِ، ويقالُ في العرشِ إنه جرمٌ جسم أعدَّه الله ليَطوفَ به الملائكةُ كما يطوف المؤمنونَ في الأرض بالكعبةِ.
وكَذلكَ يكفُر من يَقولُ: (الله يَسكنُ قلوبَ أوليائِه) إنْ كانَ يَفْهَمُ منه الحُلُولَ.
[60] س: ما المقصودُ من معراجِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم؟
لأن بعض الناس يقول إذا كان الله ليس ساكنًا السماء وليس ساكنًا العرش لِمَ عُرج بالرسول إلى السموات العلا وما فوقها ليس ليقابل الله كما يزعم المشبهة المجسمة لا.
ج: لَيسَ المَقْصودُ بالمِعراجِ وصُولَ الرسولِ إلى مكانٍ يَنْتَهِي وجُودُ الله تَعَالى إِلَيهِ ويَكْفُر مَن اعْتَقدَ ذلكَ، إِنّمَا القَصْدُ منَ المِعْراجِ هُو تَشْريفُ الرّسولِ صلى الله عليه وسلم بإطْلاعِه علَى عَجَائِبَ في العَالَمِ العُلْوِيّ، وتَعظِيمُ مكَانتِه صلى الله عليه وسلم ورُؤْيتُه لِلذَّاتِ المُقَدَّسِ بفُؤَادِه منْ غَيرِ أن يكُونَ الذَّاتُ في مكَانٍ وإنما المكانُ للرسولِ.
فإذا المقصود من المعراج تعظيم رسول الله تشريف رسول الله صلى الله عليه وسلم الله تعالى جمع له ثمانية من الأنبياء في السموات استقبلوه ورحبوا به كل يقول مرحبًا بالنبي الصالح إلا إبراهيم وءادم قالا مرحبًا بالابن الصالح لأن النسب يرجع إلى ءادم ولأن الرسول نسبه يرجع إلى إبراهيم عليهما الصلاة والسلام فهذا المعراج هو تشريف للرسول ليس ليقابل ربّ العالمين كما تزعم المشبهة المجسمة والرسول الله تعالى جعل له قوة البصر في قلبه فرأى الله بقلبه لا بعيني رأسه الله موجود بلا جهة ولا مكان ولا شكل له ولا هيئة ولا صورة فالرسول مكانه حيث كان صلى الله عليه وسلم.
[61] س: ما معنى قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى *فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}؟
ج: أمَّا قولُه تَعَالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى *فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} (سورة النجم) فَالمَقصُودُ بِهَذِهِ الآيةِ جِبْرِيلُ عَلَيْه السَّلامُ حَيْثُ رَءاهُ الرسول صلى الله عليه وسلم بمكةَ بمكانٍ يقالُ له أجيادٌ وله سِتُّمائَةِ جَنَاحٍ سادًّا عُظْمُ خَلْقِه مَا بَيْنَ الأُفُقِ، كَما رَءاهُ مَرّةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى كَما قالَ الله تَعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى *عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} (سورة النجم).
فإذًا ثم دنا فتدلى جبريل من محمد عليهما السلام هذا معناه ثم كان قاب قوسين أو أدنى أي فصار ما بينهما من المسافة قدر ذراعين بل أقرب ليس كما يقول بعض الناس اقترب الرسول من الله قدر الحاجب من الحاجب هذا كلام فاسد الله تبارك وتعالى منزه عن الجهة والمكان والقعود والجلوس الاستقرار والحركة والسكون قال الإمام الطحاوي:”ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر“.
الله يثبتنا على عقيدة أهل السنة والجماعة هللوا وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفروا للمؤمنين والمؤمنات.