تفسير سورة عبس
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين. سنتكلم إن شاء الله تعالى في تفسير سورة عبس ولكن قبل أن نبدأ في تفسير هذه السورة المباركة لا بد من أن نقدم مقدمةً مهمةً جدًا
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جمّله الله بأحسن الصفات ومدحه ووصفه في كتابه العزيز بقوله: “وإنك لعلى خلق عظيم”
في هذه السورة يذكر الأعمى وهو رجلٌ من الصحابة سنتكلم في الذي حصل معه ولكن ليعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَحصل منهُ إيذاءٌ لهذا الأعمى ولم يكسر رسول الله صلى الله عليه وسلم قلب هذا الأعمى. فقد عبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه قطع عن أمر عظيم وهو أنه كان عليه الصلاة والسلام منشغلًا بمحادثة بعض صناديد قريش ويرجو إسلامهم عليه الصلاة والسلام ويطمع في أن يَقبلوا منه ما يدعوهم إليه فالذي حصل أن هذا الرجل وهو عبد الله بن أم مكتوم وهو الأعمى الذي وردَ في هذه السورة جاء يخاطبُ النبيَ صلى الله عليه وسلم ويقول: “يا رسول الله علمني مما علمك الله ” والرسول منشغلٌ في دعوة هؤلاء إلى دين الإسلام وصار هذا الرجل يكررُ نداءهُ للنبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم منشغلٌ بذلك أي بدعوة بعض صناديد قريش إلى دين الإسلام وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يطمع في إسلام هؤلاء لما في إسلامهم من إسلام ما وراءهم من قومهم فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه فعبس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرض عن عبد الله بن أم مكتوم فعوتب عليه الصلاة والسلام ونزلت هذه السورة {عَبَسَ و تَوَلّى(1) أَن جَاءَهُ الأَعمَى (2)}و رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قلنا لم يكسر قلب هذا الرجل فالأعمى لم يرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما عَبَسَ فلم ينزعج ولا انكسر قلبُهُ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {عَبَسَ و تَوَلّى} {عَبَسَ} أي رسول الله صلى الله عليه وسلم أي قَطَبَ ما بين عينيه {وتَوَلّى} أي أعرَضَ بوجهه الكريم عليه الصلاة والسلام {أن جَاءَهُ الأعمَى} أي لأن جاءه الأعمى لأجل أن جاءه الأعمى وهو عبد الله بن أم مكتوم وحصل ما ذكرناهُ في المقدمة ثم قال الله عَزَ وَ جَل {وما يدريك لعله يزَكا} أي ما الذي يَجعلُكَ داريًا بحاله لعله يَتَطَهَرُ منَ الآثام بما يسمعه منكَ يا محمد {أو يذّكرُ فتَّنفَعَهُ الذكرى} أي يَتَعظُ بما يَتعَلَمُهُ منك يا محمد ويسمعه من موعظَتكَ فينتفع بذلك {أما مَن استَغنى} أي من استغنى عن الإيمان من أعرَضَ عن الإيمان بما عندَهُ من المال {فأنتَ لَهُ تَصَدّى} أي أنتَ تُقبلُ عليه بوجهكَ يا محمد والمرادُ الذين كان يخاطبهم الرسول صلى الله عليه وسلم من صناديد قريش{وما عليكَ ألا يزّكا} أي ليس عليكَ بأسٌ يا محمد في أن لا يقبَلَ منكَ في هذا الذي تدعوه إلى الإسلام الرسول صلى الله عليه وسلم كان يُبَلغُ ما أمَرَهُ الله عَزَّ وجَل إن يُبَلغَه فهو عليه الصلاة والسلام أدى الأمانةَ وبَلغَ الرسالَة ونَصَحَ الأُمَةَ و لم يكُن مُقصرًا عليه الصلاة والسلام في ذلكَ فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس عليه إلا البَلاغ ولا يَضُرُهُ صلى الله عليه وسلم أن لا يَقبلَ منه هؤلاء الصناديد الذين كان يدعوهم إلى الإسلام {وأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسعى} المراد هنا بالذي جاءك عبد الله بن أم مكتوم هو الرجلُ الأعمى جاء يسعى جاء مسرعًا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يتعلم. بماذا وصفه الله عزَ وجَل؟ قال الله تعالى: {وهو يَخشى} أي وهو يَخشى الله، هذا الرجل جاءَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريدُ أن يَتَعَلَمَ وحالُهُ أنهُ يخشى الله عز وجل {فَأَنتَ عَنهُ تَلَهّى} أي تتشاغل، وهنا أريدُ أن أبين أمرًا مهمًا جدًا ليس معناهُ أن الرسول صلى الله عليه وسلم في ما وَرَدَ في هذه الآية {فَاَنتَ عَنهُ تَلَهَّى} أنهُ كان ينشَغلُ بأمور تافهة لا قيمة لها عما هو مهم، بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم منشغلًا بدعوة بعض الناس إلى دين الإسلام، ثم قال الله عزَ وجَل {كلَّا} أي لا تفعَل بعدَها مثلها على أن ما فعلهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكُن معصيةً، لم يكن معصيةً كبيرةً ولا صغيرةً وكما تقدم وقلنا هذا الرجل الأعمى لم يرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عبسَ فهو أعمى فلم ينكَسر خاطرهُ. فقال الله عز و جل :{ كَلَّا إنَّها تَذكرّةٌ} أي إن آيات القرءان موعظة وتبصرة للخلق {فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ} أي فمن شاء حفظَ القرءان واتعظ به ومشيئتنا تحت مشيئة الله عز وجل كما قال الله تعالى: {وما تَشآءون إلّا أن يَشَآءَ اللّهُ رَبُّ العَلَمين} وقد قال عليه الصلاة والسلام: “ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يَكُن” فنحن مشيئتنا تحت مشئية الله عز وجل {في صُحُف مُكَرَّمَة} أي إنها صُحُف منتسخةٌ من اللوح المحفوظ وهي مكرمة، هي مكرمة عند الله عز وجل {مَرفوعَة مُطَهَرَة} هي مرفوعةُ القَدرَ محفوظةٌ مطَهَرَةٌ من الدنَس لا يَمَسُها إلا المُطَهَرون {بأَيدي سَفَرَة} أي هذه الصُحُف بأيدي سفرة أي كَتبة وهم الملائكة {كرام بَرَرَة} وصفهم الله عز وجل بأنهم كرامٌ على رَبهم بررَةٌ مُطيعون لله عز وجل، ثم قال عز وجلَّ {قُتلَ الإنسَانُ مَا أَكفَرَهُ} هنا قُتلَ معناهُ لُعنَ، لُعنَ الكافرُ المرادُ بالإنسان هنا الكافر، قُتِل الإنسان أي لُعِن الكافر ثم قول الله عز وجل {ما أكفَرَه} نعم هذه صيغة استفهام، من العلماء من قال هذا استفهام توبيخ. ما معنى ذلك؟ معناه أي شيء حملهُ على الكفر إذًا هو توبيخ لهذا الكافر، هو توبيخٌ للكافر ومن العلماء من قال المراد بذلك تعجيب السامع من حال هذا الكافر أي ما أشدّ كُفره فالمراد تعجيب السامع من حال هؤلاء الكفار الذين يكفرون بالله عز وجل، ثم قال الله عز وجل {مِن أَي شيء خَلَقَهُ}لم يتكبر هذا الكافر؟ ألم يرَ من أي شيء خُلِقَ، {مِن نُطفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} أي أن الله عز وجل خلق الإنسان من نطفة فقدرهُ، قدرهُ أطوارًا كما قال عليه الصلاة والسلام: “إن أحدكم يُجمَعُ خَلقُهُ في بطن أمهِ أربعين يومًا نُطفةً ثم يكون علقةً مثل ذلك ثم يكون مضغةً مثل ذلك ثم يُرسل الله إليه الملكَ فينفخُ فيه الروحَ ويؤمرُ بأربعِ كلمات بكتب رزقهِ وأجلهِ وعملهِ وشقي أو سعيد”. النطفةُ المنيُ المخلوق منه البشر والعلقةُ المنيُ ينتقل بعد طورهِ فيصير دمًا غليظًا متجمدًا، ثم ينتقل طوراً آخر فيصير لحمًا وهو المضغة سميت بذلك لأنها مقدار ما يُمضغ فالقصود أن التكبرَ والتَجَبُرَ لا يليقان بمن كان أصلهُ نطفَة ثم عَلَقَة ثم مُضغَة نسأل الله السلامةَ، {ثُمَّ السَّبيلَ يَسَّرَهُ} أي أن الله سهّل للإنسان الخروجَ من بطنِ أُمِهِ بأن جعلَ فُوَهَةً للرَحِمِ وألهَمَ الله الإنسان إذا اقتربَ وقتُ خروجِهِ أن يتنكسَ فيصير بعدَ ذلك رأسُهُ من جهةِ أسفَل بعد أن كان من جهةِ أعلى فسبحان الله الخالِق البارئ المصَوِر الذي ليسَ كمِثلِهِ شيء {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقبَرَهُ} أي جَعَلَ لهُ قبرًا يُوارى فيهِ ولم يَجعلهُ مما يُلقى على وَجهِ الأرضِ فتَأكُلَهُ الطَيرُ والسِباع {ثُمَّ إِذا شَاءَ أَنشَرَهُ} أي إذا جاءَ وقتُ البَعثِ بَعَثَهُ الله عز وجل أحياهُ بعدَ موتِهِ للبعث {كَلَّا لَمَا يَقضِ مَا أَمَرَهُ}، { كَلَّا} هذه كلمةُ ردعٍ و زَجر للكافر، عما هو عليهِ وقول الله عز وجل:{لَمَا يَقضِ مَا أَمَرَهُ} فالكافرُ لم يَفعَل ما أمَرَهُ الله بِهِ من الطاعَةِ والإيمانِ بالله، ثم قال الله عز وجل: {فَليَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} هنا هذا النَظَر، نَظَرُ تَدَبُرٍ وتَفَكُر {فَليَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} كيف خَلَقَ الله لَهُ طعاَمَهُ ولينظُر إلى مَدخَلِهِ ومَخرَجِهِ إذًا المراد بذلك نظَرُ اعتبارٍ وهو نظَرُ القلبِ متَدَبِرًا متفكرًا بعظيمِ قُدرَةِ الله سُبحانَهُ وتعالى. {أَنَّا صَبَبنَا المَاءَ صَبَّا} أي الغيثَ والمطَر يَنسَكِبُ من السَحاب، {ثُمَّ شَقَقنَا الأَرضَ شَقَّا} أي بالنبات فإن النباتَ يَشُقُ الأرضَ بخروجِهِ مِنها، {فَأَنبَتنَا فِيهَا حَبِّا} القَمَح والشَعير وغير ذلك مما يُنبِتُهُ الله في الأرضِ، {وَعِنَبًا وَ قَضبًا} العِنَبُ معروف والقضبُ من العلماء من قال هو العَلَف وقيل غيرُ ذلك وسُمِيَ قَضبًا لأن قَضَبَ معناهُ قَطَعَ، لأنهُ يُقضَبُ أي يُقطَعُ مَرَةً بعدَ مَرَة والله أعلَم {وَزَيتُونًا وَنَخلًا} الزيتون معروف والنخلُ معروفٌ أيضًا {وَحَدَائِقَ غُلبًا} أي بساتينَ كثيرة الأشجار الغُلبُ معناهُ الغلاظُ الأعناق المراد عِظَمُ أشجارها وكثرَتُها، {وَفَاكِهَةً وَأَبًا} أي ألوانُ الفاكهةِ وأما الأبُّ فهو ما تَرعاهُ البهائِم ثم قال الله عز وجل: {مَتَاعًا لَكُم وَلِأَنعَامِكُم} أي أن ما ذُكِرَ من الحَبِ وما بَعدَهُ خُلِقَ لمنفعةِ الإنسان وكذلك الأنعام، الأنعامُ هي الإبِلُ والبقَرُ والغنَم ثم قال الله عز وجل: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} وهي النَفخَةُ الثانية، هي صَيحة يوم القيامَة فالصَّاخةُ هي صَيحَةٌ تَصُخُ الآذانَ صَخَّا أي تُصِمُها لشِدَةِ وقعَتِها، {يَومَ يَفِرُّ المَرءُ من أَخِيهِ * وأُمِهِ و أبِيهِ * وَ صَاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ * لِكُلِ امرِئ مِنهُم يَومَئِذٍ شَأنٌ يُغنِيهِ} هنا أيضًا أريدُ أن أُقدِمَ مُقَدِمَةً مُهِمَةً جدًا إذا نظرنا في قول الله عز وجل في سورةٍ أُخرى {الأَخِلَّاءُ يَومَئِذٍ بَعضُهُم لِبَعضٍ عَدُوٌّ إِلَّا المتَقِينَ} إذًا نقولُ إن الأتقِياء والصُلَحاء من الأزواج والأُمَهات والآباء والأبناء والإخوة والأخوات لا يَفِرُ بعضهُم من بعضٍ يومَ القيامة بل يَفرحُ بعضُهم بلقاءِ بعض لأنهم كانوا في الدُنيا مُجتمعين على ماذا؟ مُجتمعين على طاعة الله وعلى مَحَبَةِ الله ولم يَكونوا ظالِمينَ لبَعضِهِمُ البعض فالذين يَفرون من بعضهِم يومَ القيامةِ هم الذين كانوا في الدنيا يُعامِلون بعضهُم بالظُلمِ والإيذاء والفُجورِ والعِصيان هؤلاء يخافون من بعضهِم يومَ القيامةِ لأجلِ التبعاتِ والمَظالِم وأما الأتقياء فقد قال الله عزَ و جلَ {الأَخِلَّاءُ يَومَئِذٍ بَعضُهُم لِبَعضٍ عَدُوٌّ إِلَّا المُتَقِين} إذًا هذه المُقَدِمَةُ التي أردنا أن نَذكُرَها قبلَ تَفسيرِ هذه الآيات {يَومَ يَفِرُّ المَرءُ من أَخِيهِ*وأُمِهِ وأبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ* لِكُلِ امرِىٍ مِنهُم يَومَئِذٍ شَأنٌ يُغنِيهِ} أي لا يَلتَفِتُ الإنسانُ إلى أحدٍ من أقارِبِهِ لِعِظَمِ ما هو فيهِ يومَ القيامةِ والمُرادُ بالصاحِبَةِ الزَوجَة في قولِهِ تعالى:{وَ صَاحِبَتِهِ} و قولُ الله عزَ و جلَ: {لِكُلِ امرِىٍ مِنهُم يَومَئِذٍ شَأنٌ يُغنِيهِ} أي لِكُلِ واحِدٍ حالًا يَشغُلُهُ عن النَظَرِ في حالِ غَيرِهِ، نَسألَ الله عزَ و جلَ السلامَةَ. {وُجُوهٌ يَومَئِذٍ مُسفِرةٌ} هذه وجوهُ المُؤمنين وجوهُ الصالحين تكون يومَ القيامةِ مُسفِرَةً أي مُشرِقَةً، مُضيئَةً قد عَلِمَت ما لها من الخَيرِ والنَعيم.{ضَاحِكَةٌ مُستَبشِرَةٌ} أي مسرورةٌ فرِحةٌ بما نالته من كرامَةِ الله عزَ و جلَ. {وَوُجُوهٌ يَومَئِذٍ عَلَيهَا غَبَرَةٌ} هذه وجوهُ الكُفار عليها غُبارٌ و كَمَدٌ من شِدَةِ الحُزُن الذي يكون فيه الكفارِ يومَ القيامَةِ نسألُ الله السلامَةَ. {تَرهَقُهَا قَتَرَةٌ} أي تغشاها ظُلمَةٌ وجوهُ الكفارِ يومَ القيامةِ تَغشاها الظُلمة. {أُولَئِكَ هُمُ الكَفَرَةُ الفَجَرَةُ} أي الكَفَرَةُ جَمعُ كافر والفَجَرَةُ جَمعُ فاجرٍ وعن أُبي بن كعبٍ رضيَ الله عنهُ في قول الله عزَ و جل:{وَحُمِلَتِ الأَرضُ وَالجِبَالُ فَدُكَتا دَكَةً واحِدة} قال يصيران غبرةً على وجوهِ الكفارِ لا على وجوهِ المُؤمنين وذلك قول الله عزَ وجلَ:” وَ وجُوهٌ يَومَئِذٍ عَلَيهَا غَبَرَةٌ * تَرهَقُهَا قَتَرَةٌ} نَسألُ الله عزَ وجلَ أن يُحسِنَ خِتامنا والله سُبحانَهُ وتعالى أعلَمُ وأحكَم
