بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و صلى الله على سيدنا محمد و على آله و صحبه الطيبين الطاهرين
سنكمل إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الجن بعد أن ذكر الله عز و جل أقوال الجن الذين آمنوا بالقرآن و آمنوا بسيدنا محمد صلى الله عليه و سلم و أخبروا قومهم بذلك و أمروهم بالإيمان أخبر الله عز و جل بعد ذلك عن حال كفار مكة
فقال عز و جل (و أن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا) و أن لو استقاموا معناه أوحي إلى النبي صلى الله عليه و سلم أنه لو استقام كفار مكة على الطريقة أي على دين الإسلام على طريق الإسلام لو أسلموا لو آمنوا و اتبعوا محمدا صلى الله عليه و سلم لأسقيناهم ماء غدقا أي ماء كثيرا و المعنى لو أسلم كفار مكة لوسعنا عليهم الرزق
ثم قال الله عز (لنفتنهم فيه ) أي لنختبرهم كيف يشكرون ما أنعم به عليهم
(و من يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا) الذي يعرض عن الإيمان الذي يعرض عن ذكر ربه الذي يعرض عن الإيمان بالقرآن و اتباع محمد صلى الله عليه و سلم يسلكه أي يدخله عذابا صعدا أي عذابا شاقا شديدا لا راحة فيه
(و أن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) أي اوحي إلى النبي صلى الله عليه و سلم أن المساجد أي المواضع التي بنيت لعبادة الله و توحيد الله و تمجيد الله هي لله عز و جل هي مشرفة عند الله فهي بيوت الله و هذه الإضافة هي إضافة تشريف و تكريم لهذه البيوت أي هي أماكن مشرفة عند الله و ليس معناه أن الله عز و جل يسكنها فإن الله عز و جل منزه عن أن يكون في المكان سبحانه و تعالى كان قبل خلق المكان موجودا بلا مكان و بعد أن خلق المكان ما زال موجودا بلا مكان, ربنا عز و جل ليس جسما الجسم تحويه الجهات الست و الله عز و جل لا تحويه الجهات الست, الجهات الست التي هي فوق و تحت و يمين و شمال و أمام و خلف هذه تحوي الجسم تجوي المخلوق أما الله عز و جل فهو خالق المكان و خالق كل شيء كان قبل خلق العالم موجودا بلا مكان و بعد أن خلق ربنا المكان ما زال ربنا عز و جل موجودا بلا مكان. و معنى (فلا تدعوا مع الله أحدا) أي لا تشرك به شيئا و لكن أفردوا له التوحيد و أخلصوا له العبادة و من العلماء من فسر المساجد هنا في الآية (و أن المساجد لله) قال معناها أعضاء السجود و هي الجبهة و اليدان و الركبتان و القدمان و الله أعلم.
ثم قال الله عزو جل (و أنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا) و أنه لما قام عبد الله, عبد الله هو محمد صلى الله عليه و سلم حين كان يصلي صلاة الفجر و يقرأ القرآن و يدعو الله عز و جل يعبد الله عز و جل كادوا أي كاد الجن يكونون عليه لبدا أي جمعا كثيرا بعضهم فوق بعض من الازدحام على النبي صلى الله عليه و سلم حرصا على سماع القرآن منه هذا تفسير و هناك تفسير آخر للآية وهو أنه عليه الصلاة و السلام لما قام بالدعوة إلى الله عز و جل كادت العرب تكون عليه لبدا أعوانا ليبطلوا الحق الذي جاءهم به من عند الله
(قل إنما أدعو ربي و لا أشرك به أحدا) أي قل يا محمد لهؤلاء المزدحمين عليك و هم إما الجن أو الإنس المشركون منهم على اختلاف القولين في ضمير كادوا الذي مر معنى في الآية التي قبلها. قل لهم إنما أدعو ربي و لا أشرك به أحدا أي قل للناس لم آتكم بأمر ينكر إنما أعبد ربي وحده و ليس ذلك مما يوجب إطباقكم على عداوتي ومقتي و بغضي أو قل للجن عند ازدحامهم متعجبين ليس ما ترون من عبادة الله بأمر يتعجب منه إنما يتعجب ممن يعبد غير الله
(قل إني لا أملك لكم ضرا و لا رشدا) أي قل لهم يا محمد أنا لا أملك لكم أنا لا أخلق ضرا و لا أخلق رشدا إنما الخالق هو الله عز و جل, النافع و الضار على الحقيقة هو الله عز و جل هو الله عز و جل خالق كل شيء خالق الخير و خالق الشر فهو سبحانه و تعالى يهدي من يشاء و يضل من يشاء
(قل إني لن يجيرني من الله أحد و لن أجد من دونه ملتحدا) قل إني لن يجيرني من الله أحد أي لن يدفع عني عذابه أحد إن عصيته و ذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم اترك ما تدعو إليه و نحن نجيرك فأكد رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه لا يطيع الكافرين و لا يخالف أمر الله عز و جل فهو عليه الصلاة و السلام أمين صادق بلغ الرسالة و أدى الأمانة و نصح الأمة و لا يخون عليه الصلاة و السلام و لا يعصي ربه فيما أمره بتبليغه عليه الصلاة و السلام فالآية فيها التأكيد على أنه عليه الصلاة و السلام لا يعصي أمر الله فيما أمره بتبليغه. و لن أجد من دونه ملتحدا أي لن أجد ملتجأ ألجأ إليه من دون الله
(إلا بلاغا من الله و رسالاته) أي لا أملك لكم إلا التبليغ و الرسالات أي إني لا أملك إلا أن أبلغكم من الله ما أمرني بتبليغكم إياه و أن أبلغكم رسالاته التي أرسلني بها إليكم و من العلماء من قال في تفسير هذه الآية لن يجيرني من الله أحد إن لم أبلغ رسالاته
(ومن يعصي الله و رسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا ) و معنى ومن يعصي الله و رسوله أي بترك الإيمان معناه من لم يؤمن معناه من كفر بالله و رسوله فإن لهم نار جهنم خالدين فيها أبدا أي مخلدين في نار جهنم بالعذاب بالعذاب الشديد الذي لا ينقطع فهذه الآية و غيرها من الآيات رد على الذين قالوا إن نار جهنم تفنى و ينتهي عذاب الكفار فيها و العياذ بالله فإن نار جهنم باقية إلى ما لا نهاية و الكفار لا يخرجون منها
(حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا و أقل عددا) أي لا يزالون على ما هم عليه لا يزال هؤلاء المشركون الذين لم يشأ الله لهم الإيمان على ما هم عليه حتى إذا رأوا ما يوعدون أي إذا رأوا ما يوعدون من عذاب الآخرة أو عذاب الدنيا فسيعلمون أي حينئذ عند نزول العذاب من أضعف ناصرا أي من هو أضعف ناصرا من هو أضعف أعوانا و أقل عددا أي سيعلمون أنه لا ناصر لهم فالكافر لا ناصر له يوم القيامة و أما المؤمن فينصره الله و الملائكة و الأنبياء و الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله سبحانه و تعالى و أما الكفار فمع كثرتهم فإن عددهم أقل بكثير من عدد الملائكة الذين قال الله فيهم (و ما يعلم جنود ربك إلا هو) فيوم القيامة سيعلم الكفار أنهم أضعف ناصرا و أنهم أقل عددا, فالكفار يحشرون يوم القيامة و يقال لهم هذا يوم الفصل جمعناكم و الأولين يحشر جميع الكفار حتى الشياطين كما قال الله عز و جل (فوربك لنحشرنهم و الشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا) مع كثرتهم و معهم يأجوج و مأجوج و الشياطين , قوم عاد و قوم ثمود و فرعون و قوم فرعون مع كثرتهم لا ينصر أحد أحدا منهم يوم القيامة و يقول الله عز و جل (ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون)
(قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا) قل أي يا محمد قل لهؤلاء المشركين من قومك إن أدري معناه ما أدري لا أدري هذه إن نافية, لا أدري أقريب ما توعدون أي أقريب ما يعدكم ربكم من العذاب أم يجعل له ربي أمدا أي غاية بعيدة يعني أنكم تعذبون قطعا و لكن لا أدري لا يدري محمد عليه الصلاة و السلام أهو حال هل سينزل الآن هذا العذاب أم هو مؤجل العلم عند الله فالله عز و جل هو وحده عالم بكل الغيب لا يعلم كل الغيب إلا الله سبحانه و تعالى قل لا يعلم من في السماوات و الأرض الغيب إلا الله أي لا يعلم كل الغيب إلا الله سبحانه و تعالى فقال الله عز و جل
(عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا) أي إن الله عز و جل هو عالم بكل ما غاب عن العباد لا يطلع الله على كل الغيب أحدا من خلقه
ثم قال الله عز و جل ( إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا) معناه أن الله عز و جل لا يطلع على جميع غبيه أحدا لكن من ارتضى من رسول فإن الله يحفظه من بين يديه و من خلفه من الشياطين. فإلا هنا في هذه الآية بمعنى لكن فليس معناها أن الله عزو جل يظهر على غيبه من ارتضى من رسول وذهب بعض المفسرين مذهبا آخر غير هذا فقالوا إن الرسول يظهره الله على بعض الغيب فجعلوا إلا هنا على معناها الذي هو الأكثر استعمالا و هو أن تكون للاستثناء المعهود, فالحاصل أن الله تعالى هو المنفرد بالاحاطة بالغيب علما لا أحد من خلقه يحيط بالغيب علما و من اعتقد أن أحدا غير الله يحيط بالغيب علما فقد كذب القرآن و معنى فإنه يسلك أي يجعل من بين يديه أي بين يدي ذلك الرسول و المراد من أمامه و من خلفه و ذكر بعض الجهات دلالة على جميعها يجعل الله له رصدا أي حفظة و هم الملائكة يحفظونه و يحرسونه من الشياطين
ثم قال الله عز و جل (ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم و أحاط بما لديهم و أحصى كل شيء عددا) ليعلم أي ليعلم محمد صلى الله عليه و سلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم أي بلغ الرسل قبله كما بلغ هو الرسالة و أحاط بما لديهم أي أحاط علم الله عز و جل بما لديهم أي بما عند الرسل و ما عند الملائكة و أحصى كل شيء عددا أي أن الله عز و جل أحاط علما بعدد كل شيء فلم يخفى عليه شيء منها من المطر و الرمل و ورق الأشجار و زبد البحار و غيرها فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه و كلامه. هذه سورة الجن و السورة التي سنبدأ في تفسيرها إن شاء الله في درسنا القادم هي سورة المزمل فنسأل الله عز و جل أن يوفقنا جميعا إلى ما يحب و يرضى و الله أعلم و أحكم.