-صفاتُ الله الثلاثَ عَشْرَة:
-قال المؤلف : جرت عادةُ العلماء المؤلِّفين في العقيدة من المتأخرين على قولهم " إنَّ الواجبَ العيني المفروضَ على كلِّ مكلَّف أي البالغِ العاقل أنْ يعرِفَ من صفات الله ثلاثَ عَشْرَةَ صفة : يعني العلماء، جرتِ العادة عند المتأخِّرين يعني العلماء المتأخرون، ليس الذين كانوا من زمان بعيد، ليس الذين كانوا في أيام السلف، إنما العلماء المتأخرون جرتْ عادتُهم على أنْ يقولوا " إنه يجبُ على كلِّ مسلم مكلَّف أنْ يعرِف ثلاثَ عَشْرَةَ صفةً لله تعالى " هذا معنى ما قال. وليس قولُهُ رحمه الله " المتأخرين " دالًّا على أنَّ المتقدِّمين ما كانوا يقولون يجب على المسلم معرِفتُها، لا. إجماع بين علماء الإسلام أنَّ هذه الصفات يجب على كلِّ مسلم مكلَّف أنْ يعرِفَها، المتقدِّمون والمتأخِّرون، لكن المتأخرون كثير منهم جرت عادتُهم، اعتادُوا أنْ يقولوا هذه العبارة " يجبُ على كلِّ مسلم مكلَّف أنْ يعلمَ أنَّ الله تعالى متصفٌ بثلاثَ عَشْرَةَ صفة هي كذا وكذا وكذا وكذا، هذا مَقْصِدُهُم. إذا نَظَرْتَ في ما قاله النابُلُسي، إذا نظرتَ في ما قاله الدِّمْياطي، إذا نظرتَ في ما قاله التَّتَائي، إذا نظرتَ من المذاهب المختلفة تجِدُهم يقولون هذا ويَنُصُّون عليه. وقبلُهم مثلا النوويُّ ذَكَرَ ذلك، وقبلَهم بكثير الإمامُ أبو حنيفة ذكر ذلك، يعني هذا ليس شيئًا اختصَّ به المتأخرون، لكن المتأخرون اعْتَنَوْا عنايةً خاصة ببيان هذا الأمر.
-قال المؤلف : الوجودَ : وسيأتي شرحُ ذلك، أي معرفةُ أنَّ الله تعالى موجودٌ سبحانه.
-قال المؤلف : والقِدَم : أي أنَّ الله لا ابتداءَ له.
-قال المؤلف : والمخالفة للحوادث : أي أنَّ الله لا يشبه المخلوقات.
-قال المؤلف : والوَحدانية : أي أنَّ الله تعالى ليس له شريك.
-قال المؤلف : والقيام بنفسه : أي أنَّ لا يحتاجُ إلى غيره.
-قال المؤلف : والبقاء : أي أنَّ الله تبارك وتعالى لا يَفنى ولا يموت.
-قال المؤلف : والقدرة : أي أنَّ الله قادرٌ على كلِّ شىء.
-قال المؤلف : والإرادة : أي أنه لا يحصُلُ شىءٌ إلا بإرادة الله ومشيئته.
-قال المؤلف : والحياة : أي أنَّ الله حيٌّ بحياة لا كحياتنا.
-قال المؤلف : والعلم : أي أنَّ الله عالمٌ لا كغيره من أهل العلم.
-قال المؤلف : والكلام : أي أنَّ الله متكلِّمٌ بكلام لا ككلامنا.
-قال المؤلف : والسمع : أي أنَّ الله تعالى سميعٌ بسَمع لا يشبه سَمْعَنا.
-قال المؤلف : والبَصَرَ : أي أنَّ الله تعالى بصيرٌ لا كالـمُبْصِرين.
-قال المؤلف : وأنه يستحيل على الله ما ينافي هذه الصفات : كلُّ ما كان منافيًا لصفة من هذه الصفات فهو مستحيلٌ على الله، لا يجوزُ أنْ يوصَفَ اللهُ به.
-قال المؤلف : ولـَمَّا كانت هذه الصفاتُ ذُكِرَتْ كثيرًا في النصوص الشرعية قال العلماء " يجبُ معرفتُها وجوبًا عينيًّا " : لماذا قال العلماء يجبُ على كلِّ مسلم مكلَّف أنْ يعرِفَ هذه الصفات ؟ لأنها ذُكِرَتْ في النصوص الشرعية في القرءان والسّنة كثيرًا كثيرًا يعني، مرات كثيرة. يعني مثلا قد تَجِد أنَّ وصفَ الله تعالى بالسَّمع جاء ذِكْرُهُ في القرءان أكثرَ من أربعين مرة، فقط في القرءان، هذا عدا عَمَّا ذُكِرَ في الأحاديث. كم مرة كانت تُقرأ الآياتُ القرءانية في اليوم ؟ كلَّ يومٍ وليلة ؟ وكم مرة كانت الأحاديث تُذْكَر ؟ وكم كان يَذْكُرُ الصحابةُ بعضُهم لبعض ماذا قالَ النبيُّ عليه الصلاة والسلام ؟ فيُفْهَم من هذا أنَّ هذا شىءٌ اعتنى نبيُّ الله عليه الصلاة والسلام بوصوله إلى كلِّ مسلم. لذلك قال العلماء " كلُّ مسلم مكلَّف يجب عليه معرفةُ هذه الصفات الثلاثَ عشرة ". وليس المقصود أنه يجبُ أنْ يحفَظَ ألفاظَها، لا، المقصودُ أنه يجبُ أنْ يعرِفَ معانِيَها، هذا الذي هو واجب. ولـَمَّا قلنا " على كلِّ مسلم مكلَّف " معنى ذلك على المسلم البالغ العاقل. البالغ معناه الذي بَلَغَ سِنَّ الخامسَ عشرة أو رأى المنيّ، هذا بالنسبة للذكر والأنثى. وتَزيدُ الأنثى بشىء، رؤيةِ دم الحيض. فإذن الذكر إذا صار سِنُّهُ خمسَ عشرة سنة قمرية أو خرج منه المنيّ يصيرُ بالغًا، أيُّ أمرٍ من الأمرين إذا حَصَل يصيرُ به بالغًا. الأنثى إذا خرج منها المنيّ أو صار سِنُّها خمس عشرةَ سنة قمرية أو رأت دمَ الحيض تصيرُ بالغةً، هذا معنى البالغ. العاقل يعني الذي ليس مجنونًا. إذا كان المسلم بالغًا عاقلا يجبُ عليه معرفةُ هذه الصفاتِ الثلاثَ عشرة، كما قلنا يجبُ معرفةُ معانيها، ليس المقصودُ أنْ يحفَظَ ألفاظَها.
-قال المؤلف : أي على كلِّ مكلَّفٍ بعينه. وقال بعضُهم " بوجوب معرفةِ عشرينَ صفةً " : بعضُهم قال " بل يجبُ معرفةُ عشرين صفة " الفَضَاليُّ مثلا ذَكَرَ ذلك. أيش زادوا ؟ قالوا " يجبُ معرفة هذه الثلاث عشرة " هذه ما أحد خالفَ في وجوب معرفتها، لكنْ زادوا أيضًا، قالوا " وأنْ يعرِفَ كونَ اللهِ حيًّا وكونَه عالـِمًا وكونَه قادرًا وكونَه مُريدًا وكونَه سميعًا وكونَه بصيرًا وكونَه متكلِّمًا فزادوا هذه السبعة على الثلاثَ عشرة صارت عشرين. وهذا قولٌ ضعيف، لأنه يُعْرَف من اتصاف الله بالعلم كونَه عالـمًا، هذا مذهبٌ ضعيف وجوبُ زيادةِ هذه السبعة. الصحيحُ القويُّ المعتَمَد أنه يجبُ معرفةُ ثلاثَ عَشْرَةَ صفةً لله تعالى.
-قال المؤلف : فزادوا سَبْعَ صفاتٍ معنويةٍ : سَمَّوْها " معنوية " لأنها لازِمةٌ من صفات المعاني. هذه الصفات السبعة سَمَّوْها معنوية لأنها لازِمةٌ للصفات السبع التي ذكرناها قبلا " الحياة والقدرة والعلم والمشيئة والسمع والبصر والكلام ".
-قال المؤلف : قالوا " وكونُهُ تعالى قادرًا ومريدًا وحيًّا وعالـِمًا ومتكلِّمًا وسميعًا وبصيرًا " : كما ذكرنا.
-قال المؤلف: والطريقةُ الأولى هي الراجحةُ : الراجح والمعتَمَد أنْ يقال يجبُ معرفةُ ثلاثَ عشرة صفةً لله، هذا هو المعتَمَد. هذه الصفاتُ الثلاثَ عَشْرَة صفةٌ منها تسمىَّ صفةً نفسية وهي الوجود. وأنا سأذكر هذا لأنه مَرَّ هنا كلمة معنوية حتى يُفْهَم ما معناها. إذن صفةٌ منها تسمَّى نفسية وهي الوجود، وأربعُ صفاتٍ تسمَّى سلبية. السَّلْب معناه النفي، لأنَّ كلَّ صفةٍ منها تدلُّ على نفي ما لا يليقُ عن الله " القِدَم معناه نفي البداية، الوَحدانية معناه نفي الشريك، القيامُ بالنفس معناه نفيُ الحاجة، المخالفةُ للحوادث معناه نفيُ المشابهة للمخلوقات ". بَقِيَ ثماني صفات، هذه الصفاتُ الثمانية يُسَمُّونَها "صفاتِ المعاني " لأنَّ كلَّ صفةٍ منها أمرٌ متحَقِّقٌ لو أنَّ الله رَفَعَ الحجابَ عن أبصارنا لرأيناها، هذه الصفاتُ الثمانية تسمَّى "صفاتِ المعاني " لأنَّ كلا منها معنىً متحقِّق لو أنَّ الله أعطانا القدرة لرأيناها، يعني " البقاء والحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام " هذه تسمَّى "صفاتِ المعاني". فإذا قلتَ " كَوْنُ اللهِ عالـمًا يُسَمُّونَها معنوية لأنَّ هذا الأمرُ يؤخَذُ يُعْلَمُ يُفْهَمُ من اتصافه بالعلم، من صفة المعنى التي هي العلم. هذا بس إيضاحٌ لا أريد التوسعَ فيه أكثر من ذلك حتى يكونَ عندَنا فكرة إذا قيل "صفةُ معنى " يعني إحدى هذه الصفات الثمانية التي ذكرناها. الصفات السليبة الأربعة والصفة النفسية هي الوجود.
-قال المؤلف : لأنه يُعْلَمُ من ثبوت القدرة له كونُهُ قادرًا وهكذا البقية.
-الوجود :
-قال المؤلف : اعلم رحِمَكَ الله أنَّ الله تعالى موجودٌ أزلا وأبدًا فليس وجودُهُ تعالى بإيجاد موجِدٍ : لأنَّ الذي يحتاج إلى مَنْ يوجِدُهُ هو الذي وُجِدَ بعد عدم، أمَّا الله موجودٌ بلا ابتداء فلا يحتاج إلى موجِد، وجودُهُ ليس كوجودنا.
-قال المؤلف : وقد استنكر بعض الناس قولَ " الله موجود " لكونِهِ على وزن مفعول : إيه هيك، بعض الناس الذين ما عندهم علم بالدين قوي ولا معرفة باللغة قوية قالوا " كيف يقال، كيف تقولون يا أهلَ السّنة الله موجود ؟ موجود على وزن مفعول، مفعول يعني وقعَ عليه فِعْلُ الغير، يعني أثَّرَ الغيرُ فيه، هكذا قالوا.
-قال المؤلف : والجواب أنَّ مفعولا قد يُطْلَق على مَنْ لم يقعْ عليه فِعْلُ الغير : نقول ليس دائمًا وزنُ مفعول يكونُ بمعنى أنَّ غيرَه أثَّرَ فيه أو أنَّه وقع عليه فعلُ الغير، ليس كذلك.
-قال المؤلف: كما نقول " اللهُ معبود " : معبود على وزنِ مفعول وليس معناه أنَّ فعلَ الغير وقع على الله أو أنَّ عبادةَ العباد أثَّرَتْ في الله. كذلك كما نقول " مَزْهو، فلانٌ مَزْهو " معناه متكبِّر، ليس معناه أنَّ فِعْلَ غيرِهِ وقَعَ عليه. ليس دائمًا وزنُ مفعول يكونُ بمعنى أنَّ فعلَ الغير وقع عليه. وهكذا " موجودٌ " معناه أنَّ الله مُتَحَقِّقُ الوجود، هذا معناه، ليس كما ذهب إليه فِكْرُهم بسبب جهلهم بالشرع وجهلهم باللغة.
-قال المؤلف : وهؤلاء ظَنُّوا بأنفسهم أنَّ لهم نصيبًا في علم اللغة وليسوا كما ظنوا : نعم.
-قال المؤلف : قال اللغوي الكبير شارح القاموس الزبيدي : الذي يقولون عنه " خاتمةُ اللغويين " ما جاء بعده في علماء اللغة مَنْ يَصِلُ إلى رُتْبَتِهِ الزبيديُّ رحمه الله. كان مُحَدِّثًا فقيهًا لغويًّا، واسعَ المعرفة في اللغة.
-قال المؤلف : في " شرح الإحياء " ما نصُّهُ " والبارىءُ تعالى موجودٌ فَصَحَّ أنْ يُرى " : انظر كيف استعمل كلمة " موجود " في حقِّ الله، لأنه ليس دائمًا ما كان على وزن مفعول يدلُّ على أنَّ الفعلَ وَقَعَ عليه أو أنَّ غيرَه أثَّرَ فيه.
-قال المؤلف : وقال الفيوميُّ اللغويُّ صاحبُ " المصباح " : هذا أيضًا من كبار فقهاء الشافعية ومن كبار أهل اللغة.
-قال المؤلف : الموجودُ خلافُ المعدوم " : والله ليس معدومًا إذن يقالُ هو موجود، هذا معنى الموجود. ما قال الموجود الذي وقع عليه فِعْلُ كذا، لا، الموجود أي الذي ليس معدومًا.
-القِدَم : أي عدمُ البداية، هنا هذا معناه. وأحيانًا يُطلَقُ القِدَم بمعنى مضى عليه زمانٌ طويل، ليس هذا المرادَ هنا.
-قال المؤلف : يجبُ لله القِدَمُ بمعنى الأزلية لا بمعنى تقادمِ العهدِ والزمن : اللهُ متَّصِفٌ بالقِدَم بمعنى أنه بلا ابتداء، ليس بمعنى أنه مضى عليه زمانٌ طويل.
-قال المؤلف : لأنَّ لفظَ القديمِ والأزليّ إذا أُطْلِقَا على الله كان المعنى أنه لا بدايةَ لوجوده : هذا معنى القديم والأزليّ إذا أطْلِقَا على الله.
-قال المؤلف : فيقالُ " اللهُ أزليٌّ، اللهُ قديمٌ " : أي لا بداية لوجوده، الله هو الأول الأزليّ القديم، كلُّ هذا بمعنى أنه لا ابتداءَ لوجوده سبحانه.
-قال المؤلف : وإذا أُطْلِقَا على المخلوق : يعني القديمَ والأزليَّ إذا أُطْلِقا على المخلوق.
-قال المؤلف : كانا بمعنى تقادمِ العهد والزمن : كانا بمعنى مرورِ زَمَنٍ طويل أي لهما بداية، له بداية لكنْ مَرَّ زمانٌ طويل.
-قال المؤلف : قال الله تعالى في القمر { حتى عاد كالعُرجون القديم } : العُرجون قطعة من النخلة إذا مضى عليها زمان تَتَقَوَّس، قال تعالى { حتى عاد كالعُرجون القديم } أي حتى صار شكلُ القمر مِثْل هذا العرجون أي حتى صار هِلالا، هذا معناه. قال { كالعرجون القديم } أي الذي مضى عليه وقتٌ طويل.
-قال المؤلف : وقال صاحبُ القاموس الفيروز أبادي : من أكبر علماء اللغة. بسبب كتابه " القاموس المحيط " صار كلُّ كتاب، كلُّ مُعْجَم يُبَيَّنُ فيه معاني الكلمات يسمَّى القاموس، بسبب كتابه، من عُلُوِّ شأنه.
-قال المؤلف : " الهَرَمانِ بناءانِ أزليَّانِ بـِمِصْرَ " : قال " الهرمان " يعني أكبر هرمين في مصر، قال " بناءان أزليَّان بمصر " أزليان مضى عليهما زمانٌ طويل، هذا معناه. فإذن القديمُ والأزليّ إذا أطْلِقَا على الله معناه الذي لا بداية لوجوده، إذا أُطْلِقَ على المخلوق معناه مضى عليه زمانٌ طويل.
-قال المؤلف : وأمَّا بُرهانُ قِدَمِهِ تعالى : الذي يدلُّ في العقل على أنَّ الله لا ابتداءَ لوجوده.
-قال المؤلف : فهو أنه لو لم يكنْ قديمًا لَلَزِمَ حدوثُهُ : لو لم يَكُنِ اللهُ بلا بداية لكان حادثًا، موجودًا بعد عدم.
-قال المؤلف : فيفتَقِرُ إلى محدِثٍ : وما وُجِدَ بعد عدم يحتاجُ إلى مَنْ أوجَدَه.
-قال المؤلف : فَيَلْزَمُ الدورُ أو التسلسلُ وكلٌّ منهما مُحالٌ : لو كان ذلك لَلَزِمَ من هذا الدَّوْر أو التسلسل وكلاهما باطل. هنا يُحتاجُ إلى شرح معنى الدور ومعنى التسلسل. الدورُ معناه أنْ يقال " زيدٌ متوقِفٌ وجودُهُ على وجودِ عمرو لكنْ عمرو متوقِّفٌ وجودُهُ على وجود زَيْد " فيحصُلُ الدَّوْر ولا يكونُ أيُّ منهما موجودًا. يعني لو كان اللهُ حادثًا بعد عدم لاحتاج إلى مَنْ أحدَثَه، وهذا المحدِث إذا كان حادثًا بعد عدم لاحتاج إلى مَنْ أحدَثَه. فإذا قيلَ " الله الذي أحدَثَه واللهُ محتاجٌ في حدوثه إليه صار كلُّ واحد منهما وجودُهُ متوقِّف على وجود الآخَر فلا يوجَدُ أيٌّ منهما " إذا قيل زيد محتاجٌ في وجوده إلى وجود عمرو، بس عمرو لا يوجَد إلا إذا وُجِدَ زيد، لا يوجَدُ زيدٌ ولا عمرو لأنَّ كلَّ واحد منهما يصيرُ قبل نفسه وبعد نفسه، وهذا محال، مستحيل. هذا يقالُ له " الدور " نُمَثِّلُ لكم هذا بـِمِثال " لا أعطي زيدًا دِرْهَمًا حتى يُعطِيَني هو دِرهمًا، لكنْ هو لا يعطيني درهمًا حتى أُعْطِيَهُ أنا درهم " لا أنا يَصِلُ إليَّ دِرهم ولا زيدٌ يِصَلُ إليه دِرهم، هذا مِثالُ الدَّوْر. الدورُ مستحيل، محال. الشىءُ الثاني هو التسلسل، التسلسل أنْ يقال " وجودُ هذا متوقِّف على وجود شىءٍ قبلَه، لا يوجَد إلا إذا وُجِدَ قبلَه شىء، لكنْ الذي قبلَه متوقِّف على شىء قبلَه والذي قبلَه متوقِّف على شىء قبلَه، والذي قبلَه لا يوجَد إلا إذا وُجِدَ شىءٌ قبلَه وهكذا لا إلى أول، بلا بداية، هذا أيضًا مستحيل لأنه لو كان الأمرُ كذلك لـَمَا كان الآن شىءٌ موجودًا، ليش ؟ لأنه حتى يَصِلَ الدور إلى الشىء الموجود الآن لا بد أنْ يكونَ انتهى ما قبلَه، وما قبلَه لا نهايةَ له فكيف ينتهي ؟ هذا تناقض. مِثالُ ذلك " لا أُعطيكَ دِرهمًا حتى أكونَ أعطيتُكَ قبلَه درهمًا، لا أعطيكَ الذي قبلَه حتى أكونَ أعطيتُكَ قبلَه دِرهمًا، هل تأخذُ مني درهمًا قطّ ؟ لا تأخُذ. وهذا مِثالُ الحادِثِ الحاضر، هذا هو التسلسل، أيضًا مستحيل. فإذن لو كان الله سبحانه موجودًا بعد عدم تبارك وتعالى لاحتاج إلى موجِد ولكان مخلوقًا محتاجًا، تعالى اللهُ عن ذلك. ولا يجوز أنْ يقال " هو يحتاجُ إلى موجِد وهذا الموجِد يحتاج إليه" لأنَّ هذا دَّوْر وهو مستحيل. ولا يجوز أنْ يقال هو محتاج إلى موجِد وهو محتاج إلى موجِد قبلَه وهو محتاج إلى موجِد قبلَه بلا ابتداء لأنَّ هذا تسلسل وهو مستحيل. فإذن الله تبارك وتعالى لا بد أنْ يكونَ أزليًّا بلا ابتداء، ثَبَتَ أنَّ حدوثَه محال.
-قال المؤلف : وقِدَمَهُ ثابتٌ : وأبسط من هذا أنْ يقال " لو كان اللهُ موجودًا بعد عدم لاحتاج إلى موجِد ولكان مخلوقًا، والمحتاجُ المخلوق لا يكونُ إلهًا. لكنْ الكلامُ عن الدور والتسلسل مفيد، ينفَعُ فَهْمه في بعض الأمور الأخرى أيضًا.
-البقاء :
-قال المؤلف : يجبُ البقاءُ لله تعالى بمعنى أنه لا يَلْحَقُهُ فناء، لأنه لـَمَّا ثَبَتَ وجوبُ قِدَمِهِ تعالى عقلا وَجَبَ له البقاء : بما أنَّ الله تعالى لا ابتداءَ لوجوده إذن لا يجوزُ عليه الفناء ؟ ليه ؟ لأنَّ الذي يجوزُ عليه أنْ يفنى يكونُ لوجوده ابتداء فيكونُ مخلوقًا. أنا الآن قاعد، قُعُودي يجوز أنْ ينتهِيَ، بمعنى يجوزُ أنْ أقِف. فإذن أنا يجوزُ عليَّ القعود ويجوزُ عليَّ الوقوف، يجوزُ عليَّ هذه الحال ويجوزُ عليَّ هذه الحال، إذن من حيث ذاتي كَوْني مَنْ أنا، كَوْني هذا الإنسان، هذا لا يوجِبُ أنْ أكونَ قاعِدًا ولا يوجِبُ أنْ أكونَ واقفًا. كَوْني إنسانًا لا يُرَجِّحُ أنْ أكونَ قاعدًا ولا يُرَجِّحُ أنْ أكونَ واقفًا، فإذا قَعَدْتُ أنا بحاجة إلى مَنْ رَجَّح قعودي على قيامي، مَنْ خَصَّني بالقعود، وإذا وقفتُ أنا بحاجة إلى مَنْ خَصّني بالوقوف بدل القعود. مثال ثاني للتقريب، الباب، يجوزُ أنْ يكونَ مفتوحًا ويجوزُ أنْ يكونَ مُغْلَقًا، من حيث كونُهُ بابًا هذا لا يقتضي أنْ يكونَ مغلقًا. لو كان كَوْنُهُ بابًا يقتضي أنْ يكونَ مغلَقًا كان يكونُ مغلَقًا كلَّ الوقت ولا يجوزُ أنْ يُفْتَح. ولو كان كونُهُ بابًا يقتضي أنْ يكونَ مفتوحًا لكان يبقى مفتوحًا كلَّ الوقت ولا يجوزُ في العقل أنْ يُغْلَق، وليس كذلك. إذن كونُهُ بابًا لا يُوجِبُ فَتْحَه ولا يوجِبُ إنغلاقَه، فإذا كان مفتوحًا إذن انفتاحُهُ ليس من ذاته بل غيرُهُ خَصَّه بذلك، إذا كان مغلقًا إنغلاقُهُ ليس من ذاته بل غيرُهُ خَصَّه بذلك. وهكذا لو جاز على الله الوجودُ والعدم لكان إذا اختصَ بالوجود بحاجة إلى مَنْ خَصَّصَه بذلك، وإذا اختص بالعدم بعد الوجود بحاجة إلى مَنْ خصَّصَه بذلك وهذا شأنُ العالم، ليس شأنَ الخالق. العالم هو الذي يجوزُ عليه هذا وهذا، فإذا وُجِدَ إذن لا بد من مُخَصِّصٍ خَصَّصَه بالوجود، لا بد أنَّ هناك مَنْ أوجدَه، وإذا عُدِم لا بد أنَّ هناك مَنْ أعدَمَه غيرُهُ. أمَّا الله تعالى فلا يجوزُ عليه العدم، موجودٌ بلا ابتداء وباقٍ بلا انتهاء، لا يجوزُ عليه العدمُ سبحانه.
-قال المؤلف: لأنه لو أمكن أنْ يَلْحَقَه العدمُ لانتفى عنه القِدَم. فهو تبارك وتعالى الباقي لذاته : هو سبحانه باقٍ ببقاءٍ هو صفتُهُ، ليس غيرُهُ أعطاه البقاء. ليس مِثْلَ الجنة، الجنة تبقى لكنْ بقاؤها ليس لذاتها بل لأنَّ الله خَصَّها بالبقاء. النارُ تبقى لا تفنى لكنْ بقاؤها ليس لذاتها بل لأنَّ الله خَصَّها بالبقاء. أمَّا الله تعالى بقاؤه ذاتيٌّ سبحانه.
-قال المؤلف : لا باقِيَ لذاته غيرُهُ، وأمَّا الجنةُ والنار فبقاؤهما ليس بالذات بل لأنَّ الله شاء لهما البقاء. فالجنةُ باعتبارِ ذاتِها يجوزُ عليها الفناء : لولا أنَّ الله شاء للجنة البقاء لقلنا يجوزُ أنْ تفنى، لولا أنَّ الله شاء للنار البقاء لقلنا يجوزُ أنْ تفنى. الجنةُ والنارُ باعتبار ذاتَيْهِما لا باعتبار أنَّ الله شاء لهما البقاء يجوزُ عليهما الفناء.
-قال المؤلف : وكذلك النارُ باعتبار ذاتِها يجوزُ عليها الفناء : فإذن بقاءُ الجنة وبقاءُ النار ليس كبقاءِ الله. اللفظُ واحد لكنَّ المعنى ليس واحدًا. بقاءُ الله ذاتيّ، بقاءُ الجنة بإبقاء الله لها، بقاءُ النار بإبقاء الله لها، فليس بقاؤهما مشابِهًا لبقاء الله ولا بقاءُ الله مشابهًا لبقائهما.
-السمع :
-قال المؤلف : وهو صفةٌ أزلية ثابتةٌ لذات الله فهو يسمعُ الأصوات كلَّها بسمع أزليّ أبديّ لا كسمعنا : السمعُ صفةٌ أزلية ثابتةٌ لذات الله، يسمعُ الله تعالى بها المسموعات، المسموعات كلَّها بسمع أزليّ أبديّ لا يشبه سمعَنَا.
-قال المؤلف : ليس بأذُنٍ وصِماخ. فهو تعالى لا يَعْزُبُ أي لا يَغيبُ عن سمعه مسموعٌ : الله تعالى سمعُهُ ليس كسمعنا، سمعُنا نحن بأذن بصِماخ بآلة، بِذَبْذَبَةِ هواء، أمَّا سمعُ الله ليس بأذن ولا آلة أخرى. الله سَمْعُهُ أزليّ، نحن سمعُنا حادث، نحن عندما يحصُلُ الحادث، يحدُثُ في ذاتنا شىءٌ هو السمعُ، نحتاجُ فيه الى الآلة. أمَّا الله عندما يحصُلُ ما يُسْمَع يسمَعُهُ من غير أنْ يحدُثَ فيه شىء سبحانه، من غير آلة ولا نحاولُ أنْ نتخيَّلَ ذلك لأنَّنا لا نحيطُ علمًا بصفة الله ولا بذات الله. حقيقةُ صفة الله نحن لا نعلَمُها، وحقيقةُ ذاتِ الله نحن لا نعلَمُها. لذلك لا يجوزُ لنا أنْ نحاول أنْ نتخيَّلَ صفةَ الله ولا أنْ نتخيَّل ذاتَ الله لأنَّ كلَّ ما تتخيَّلُه مخلوق والله لا يشبه ذلك.
-قال المؤلف : وإنْ خَفِيَ أي علينا وبَعُدَ أي عنا، كما يعلمُ بغير قلب : البعيد منا والقريب منا يسمعُهُ الله تبارك وتعالى بسمعه الأزليّ، لا يخفى عليه شىء.
-قال المؤلف : ودليلُ وجوب السمع له عقلا أنه لو لم يكنْ متصفًا بالسمع لكان متصفًا بالصَّمَم وهو نقصٌ على الله : قالوا لو لم يكنِ اللهُ سميعًا لكان متصفًا بالصَّمَم أي بالطرش وهو نقصٌ في حق الله والنقصُ عليه محال.
-قال المؤلف : والنقصُ عليه مُحال. فمنْ قال إنَّ الله يسمعُ بأذُن فقد ألحَدَ وكَفَرَ : أمَّا مَنْ يدَّعي أنَّ الله يسمعُ بأذن بآلة مثلَنا هذا شَبَّهَ اللهَ بالمخلوقين. نحن أهلَ السّنة لا ننفي عن الله الصفات التي في جاءت في الشرع لله عزّ وجلّ ولكننا لا نُشَبِّهُهَا بصفات المخلوقين. لا نحن كالفلاسفة الذي نَفَوْا صفاتِ الله ولا نحن كالمشبهة الذين جعلوها كصفات المخلوقين، إنما نحن وسَطٌ بين هذين الطرفين.
-البَصَر :
-قال المؤلف : يجب لله تعالى عقلا البصرُ أي الرؤية : يجب أنْ نعتقد أنَّ الله تعالى متصفٌ بصفة البصر أي الرؤية.
-قال المؤلف : فهو يرى برؤية أزلية أبدية المرئياتِ جميعَها : الله يرى برؤية أزلية أبدية لأنَّ صفاتِهِ كلَّها أزليةٌ أبدية، فبصَرُهُ أزليٌّ أبديّ لا يحصُلُ فيه تغيُّر. عندما يحدُثُ الشىء يوجَدُ المخلوق يراه اللهُ ببصره الذي لا بداية له ولا نهاية له من غير أنْ يحدُثَ شىءٌ في الله، من غير أنْ يتغيَّرَ شىءٌ في الله، هذا الذي يجبُ علينا اعتقادُهُ. وكما ذكرنا في صفة السمع، لا نحاولُ أنْ نتخيَّلَ ذلك لأنَّ الله لا يشبه المخلوقات، لأنَّ كلَّ ما نتخيَّلَه مخلوق والله لا يشبه المخلوق. الله تعالى يسمعُ كلامَه ويسمعُ كلَّ المسموعات بسمع أزليّ أبديّ لا يتغيَّر. يرى ذاتَه ويرى صفاتِهِ ويرى مخلوقاته برؤية أزلية أبدية لا تتغيَّر. صفاتُهُ كلُّها أزليةٌ أبدية ولا يطرأ عليه سبحانه وتعالى تغيُّر.
-قال المؤلف : ويرى ذاتَه بغير حَدَقة وجارحة : ورؤيتُهُ للأشياء ليست بحدقة مثلَنا، هذا الشىءُ الذي نحن نُبْصِرُ به ولا بجارحة تشبهُ ذلك أو غيرَ ذلك، ليست بآلة، إنما يرى سبحانه بصفة هي صفةُ البصر أزليةٌ أبدية.
-قال المؤلف : لأنَّ الحواس من صفات المخلوقين : والخالقُ لا يوصَفُ بصفات المخلوقين.
-قال المؤلف : والدليلُ على ثبوت البصر له عقلا أنه لو يكنْ بصيرًا رائيًا لكان أعمى، والعمى أي عدمُ الرؤية نقصٌ على الله : لذلك لا يجوزُ أنْ يوصَفَ اللهُ به. نقول " الله تعالى بصير لكنْ صفتُهُ البصر لا تشبه صفاتِ المخلوقين ". لا ننفي عن الله الصفة كما فعل الفلاسفة بل نُثْبِتُ ما جاء في الكتاب والسّنة من صفات الله لكنْ لا نشبه صفاتِ الله بصفات المخلوقين كما قال تعالى { ليس كمثله شىء }
-قال المؤلف : والنقصُ عليه مستحيل : هكذا.
-قال المؤلف : ودليلُ السمع والبصر السمعيُّ : أمَّا من حيث النقل من حيث الكتابُ والسّنة فالدليلُ على اتصاف الله بالسمع والبصر الآياتُ والأحاديث.
-قال المؤلف : الآياتُ والأحاديثُ كقولِهِ تعالى { وهو السميعُ البصيرُ } وقولِهِ صلّى الله عليه وسلّم في تَعدادِ أسماء الله الحسنى " السميعُ البصيرُ " وهو في حديث أخرجَهُ الترمذي وصَحَّحَهُ ابنُ حبان : نعم.
-الكلام :
-قال المؤلف : الكلامُ هو صفةٌ أزليةٌ أبدية هو متكلِّمٌ بها، ءامِرٌ، ناهٍ، واعِدٌ، متوعِّدٌ : الكلام من صفات الله تبارك وتعالى، وصفةُ الكلام لله أيضًا صفةٌ أزلية أبدية ليس لها ابتداءَ ولا لها انتهاء. الله أمرَ بكلامه ووعَدَ بكلامه ونهى بكلامه وتوعَّدَ بكلامه سبحانه وتعالى. وكلامُهُ ليس شيئًا يحصُلُ بعد شىء، ليس شيئًا مركَّبًا من أجزاء، ليس كلامُهُ سبحانه وتعالى شيئًا لم يكنْ موجودًا ثم وُجِد، لا. كلامُهُ صفتُهُ لا يشبه كلامَنا، لا له ابتداء ولا له انتهاء، مثلُ كلِّ صفاتِهِ سبحانه.
-قال المؤلف : ليس ككلام غيره، بل أزليٌّ بأزلية الذات، لا يشبه كلامَ الخلق : هكذا، كلامُ الله أزليٌّ لا ابتداء له لأنَّ الذاتَ أزليّ والذاتَ الأزلي لا بد أنْ تكونَ صفتُهُ أزلية، لأنه كما قلنا لو كانت الصفة حادثة لكان الذاتُ حادثًا. لو جاز أنْ يتصفَ الذاتُ بصفة حادثة لكان هذا الذاتُ حادثًا، إنما كلامُهُ صفتُهُ لا يشبه كلامَ الخلق.
-قال المؤلف : وليس بصوت يحدُثُ من انسلال الهواء : ليس بصوت يحدثُ من خروج الهواء من مخرج ضيق كما من الفم.
-قال المؤلف : أو اصطكاك الأجرام : ولا شىء يحدُثُ من اصطدام الأجرامِ بعضِها ببعض، اصطدام اللسان بغيره أو الأسنان بعضِها ببعض أو الأسنان بغيرها أو، لا، لا، لا، ليس كذلك. كلامُهُ لا هو حرف ولا هو صوت ولا هو حاصِلٌ دَفْعَة بعد دَفْعَة.
-قال المؤلف : ولا بحرف ينقَطِعُ بإطباق شَفَة أو تحريكِ لسان : ليس حرفًا ينقطِعُ بإطباق الشَّفَة ولا بتحريك اللسان، ليس هكذا. ليس حرفًا يحصُلُ بتحريك اللسان وينقطِع ونحوُ ذلك، ليس ككلام المخلوقين.
-قال المؤلف : ونعتقدُ أنَّ موسى سَمِعَ كلامَ الله الأزليّ بغير حرف ولا صوت، كما يرى المؤمنون ذاتَ الله في الآخرة من غير أنْ يكونَ جوهرًا ولا عَرَضًا : إذا كان كلامُ الله لا يشبه كلامَ المخلوقين لا هو حرف ولا هو صوت ، ولا له ابتداء، ولا يحدُثُ دَفعة بعد دفعة ماذا نقولُ في سماع موسى لكلام الله ؟ نقول سمعَ موسى هذا الكلام الذي لا يشبه كلامَنا، كما أنَّ المؤمنين في الآخرة يَرَوْنَ اللهَ وهم في الجنة وهو لا يشبه المخلوقات. كما أنَّ الله يُعطينا في أعيُننا قوةً نراه بها وهو لا يشبه المخلوقات إذا دخلنا الجنة، كذلك أعطى اللهُ موسى عليه السلام قوةً فسمِعَ بها كلامَ الله الذي لا يشبه كلامَنا.
-قال المؤلف: لأنَّ العقل لا يحيلُ سماعَ ما ليس بحرف ولا صوت : لأنَّ العقل لا يدلُّ على أنه مستحيلٌ سماعُ ما ليس بحرف ولا صوت، لا. كما أنه لا يدلُ على أنه يستحيل رؤيةُ ما ليس جسمًا.
-قال المؤلف : وكلامُهُ تعالى الذاتيُّ ليس حروفًا متعاقبة ككلامنا : كلامُ الله تعالى الذاتيُّ الذي هو صفتُهُ القائمُ بذاته ليس حرفًا ولا صوتًا. ليس حرفًا يأتي بعد حرف كما أنَّ كلامنا حرفٌ بعد حرف لأنَّ هذه الحروف مخلوقة ولا يجوزُ أنْ يوصَفَ الله بصفة مخلوقة.
-قال المؤلف : وإذا قرأ القارىءُ منا كلامَ الله فقراءَتُهُ حرفٌ وصوتٌ ليست أزلية : هذا يحتاجُ هنا إلى إيضاح. كلامُهُ الذاتيُّ الذي ليس حرفًا ولا صوتًا هذا صفتُهُ القائمُ بذاته تعالى نسمّيه كلامَ الله تعالى. وهذا الكلام اللهُ أنزل على النبيّ عبارةً عنه يعني أنزل على النبيّ صوتًا باللغة العربية وحروفًا باللغة العربية نَظْمًا شيئًا باللغة العربية يدلُّ على معنى كلامِهِ الذي هو صفتُهُ وهو القرءانُ الكريم الـمُنْزَلُ على محمد عليه الصلاة والسلام. هذه الألفاظُ المنزَلة أيضًا نسميها كلامَ الله مع أنها بالعربية، إذا قرأها الواحدُ منا يكونُ قرأ كلامَ الله معناه قرأ ما يدلُّ على كلام الله الذاتيّ، هذا معناه. لذلك قال " فإذا قرأ القارىءُ منا كلامَ الله " أي إذا قرأ القارىءُ منا الحروفَ الألفاظَ الدالَّةَ على كلام الله الذي هو صفتُهُ " فقراءَتُهُ حرفٌ وصوت ليست أزلية " لأنَّ قراءة القارىء ليست صفةَ الله. واضح هذا، إذا قرأتُ أنا القرءان قراءتي ليست صفةَ الله. شو صفةَ الله حَلَّتْ فيَّ ؟!!! لا. إنما الذي أقرؤه أنا شىءٌ يدلُّ على صفة الله تبارك وتعالى، فقراءتي حرفٌ وصوت وصفةُ الله ليست حرفًا ولا صوتًا إنما هذه القرءاة تدلُّ على تلك الصفة، عبارة عن تلك الصفة.
-قال المؤلف : وقد نُقِلَ هذا التفصيل عن أبي حنيفةَ رضي الله عنه وهو من السلف، أدركَ شيئًا من المائة الأولى ثم توفي سنةَ مائةٍ وخمسين هجرية : أبو حنيفة رضي الله عنه من رؤوس السلف، وُلِدَ في أواخر القرنِ الأول ومات في منتصف القرن الثاني، توفي سنةَ مائةٍ وخمسين من الهجرة. وقد قالوا إنه رأى بعضَ الصحابة وإنْ كان لم يسمَع منه لكنْ رآه. فأبو حنيفة رضي الله عنه ذَكَرَ مثلَ هذا عن كلام الله تبارك وتعالى. هذا كلامُ السلف، ليس شيئًا مبتَدَعًا.
-قال المؤلف : قال " والله يتكلَّمُ لا بآلة وحرف " والله يتكلَّمُ لا بآلة وحرف، كلامُهُ الذي هو صفتُهُ ليس بآلة ولا هو حرف.
-قال المؤلف : قال أبو حنيفة " ونحنُ نتكلَّمُ بآلة وحرف " : أمَّا نحن فكلامُنا بالآلات والحروف. أبو حنيفة قال " ويتكلَّمُ لا ككلامنا " نحن نتكلَّمُ بالآلات، باللسان والشَّفَتَيْن من المخارج، مخرج الألف غير مخرج الميم غير مخرج الهاء. من المخارج والحروف، بحرف بعد حرف. قال " والله متكلِّمٌ بلا آلة ولا حرف " هذا كلامُ أبي حنيفة رضي الله عنه الذي هو من رؤوس السلف.
-قال المؤلف : فليُفْهَم ذلك. وليس الأمرُ كما تقولُ المشبهةُ بأنَّ السلف ما كانوا يقولون بأنَّ الله متكلِّمٌ بكلام ليس بحرف " : ليس الأمرُ كما تقولُ المشبهة، المشبهة يقولون " السلف كانوا يقولون الله يتكلَّم بحرف". لو كان السلف يقولون الله يتكلَّمُ بحرف كيف قال أبو حنيفة " بلا آلة ولا حرف " ؟ إنما المشبهةُ يكذِبون.
-قال المؤلف : قالت المشبهة "وإنما هذا بدعةُ الأشاعرة " : يزعم المشبهة أنَّ الأشاعرة ابتدعوا هذا الكلام. أبو حنيفة كان قبل الأشعريّ بمائةٍ وخمسين سنة، كيف تكونُ بِدْعَةَ الأشاعرة ؟!!! إنما هذا كلامُ السلف والخلف لكنْ المشبهةُ مُدَلِّسون، المشبهة مُدَلِّسون خدَّاعون.
-قال المؤلف : وهذا الكلامُ من أبي حنيفة ثابتٌ ذكره في إحدى رسائله الخمس : في كتاب "الفقه الأكبر" له.
-قال المؤلف : والقرءانُ له إطلاقان : فيُفْهَمُ مِمَّا ذكرناه قبل أنَّ القرءان له إطلاقان، يطلَقُ بمعنيين، كما أنَّ كلام الله أيَصا يُطْلَق بمعنيين. فإذن قولُ الله كلامُ الله القرءان هذه تطلَقُ، كلٌّ منها يُطْلَقُ بمعنيين. القرءان يستعمَل بمعنى صفةِ الله بمعنى كلام الله الذي هو صفتُهُ القائمِ بذاته وهذا ليس لغةً عربية ولا غيرَها، لا يشبه كلامَنا، لا نستطيعُ أنْ نتصوَّرَه ولا يجوزُ أنْ نتخيَّلَه. والثاني يُطْلَقُ بمعنى الـمُنَزَّلِ على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وهذا باللغة العربية هو معروف. بهذين المعنيين يُطْلَقُ القرءان، يطلَقُ بهذا المعنى ويُطلَقُ بهذا المعنى.
-قال المؤلف : يطلَقُ على اللفظ المنزَّل على محمد وعلى الكلام الذاتيّ الأزليّ : { وإذا قرأتَ القرءانَ } في القرءان، ما معنى القرءان هنا ؟ معناه اللفظ الذي أُنْزِلَ عليكَ يا محمد. ليس معناه إذا قرأتَ صفةَ الله، ليس معناه صفةُ الله حَلَّتْ في محمد، حاشا وكلا.
-قال المؤلف : وعلى الكلام الذاتيّ الأزليّ الذي ليس هو بحرف ولا صوت : وأيضًا يطلَقُ القرءان على صفة الله الذي هو ليس بحرف ولا صوت.
-قال المؤلف : ولا لغةٍ عربية ولا غيرِها. فإنْ قُصِدَ به الكلامُ الذاتيّ فهو أزليٌّ ليس بحرف ولا صوت : القرءان بمعنى الكلامِ الذاتيّ الذي هو صفةٌ لله لا بداية له ولا نهاية، ليس حرفًا ولا صوتًا.
-قال المؤلف : وإنْ قُصِدَ به وبسائر الكتب السماوية اللفظُ المنزَّلُ : إنْ قُصِدَ بالقرءان أو بالتوراة أو بالإنجيل أو بالزَّبور، اللفظ الذي نُزِّلَ على النبيّ.
-قال المؤلف : فمنه ما هو باللغة العِبرية : وهما التوراةُ والزَّبور.
-قال المؤلف : ومنه ما هو باللغة السُّريانية : وهو الإنجيل. والقرءانُ بالعربية.
-قال المؤلف : وهذه اللغاتُ وغيرُها من اللغات لم تكنْ موجودةً : كلُّها مخلوقة.
-قال المؤلف : فخلَقَها اللهُ تعالى فصارت موجودةً : والله كان قبلَها فلا يجوزُ أنْ يكونَ كلامُهُ بلغة من اللغات لأنَّ اللغاتِ خَلْقُ الله.
-قال المؤلف : والله تعالى كان قبل كلِّ شىء وكان متكلِّمًا قبلَها ولم يَزَلْ متكلِّمًا، وكلامُهُ الذي هو صفتُهُ أزليٌّ أبديٌّ وهو كلامٌ واحد : فإذن كلامُهُ الذي هو صفتُهُ في الأزل ليس حرفًا ولا صوتًا ولا لغة إنما هو صفةٌ واحدة لله تعالى، كلامُهُ واحد. ما معنى " واحد " ؟ معناه ليس له فيه شريك ولا هو مُتَجَزِّىء ولا هو مُتَعَدِّد، هذا معنى " واحد " إذا أُطْلِقَ على كلام الله تبارك وتعالى. ليس هناك أحدٌ له كلامٌ يشبه كلامَه، ولا أنَّ كلامَ الله مؤلَّف من أجزاء مُرَكَّب من أصوات وحروف مثلُ كلامِنا، حاشا وكلا. كلامُهُ لا ابتداءَ له ولا انتهاء له، لا يشبه كلامَ المخلوقين. أمَّا الكلامُ الذي أنزَلَه الله على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام فهذا عبارةٌ عن كلام الله الأزلي، ولأنَّه عبارةٌ عنه نسمّيه كلامَ الله. مثال ذلك أليس أخبرنا اللهُ تعالى في القرءان عن قابيل وهابيل وعن مُحاورةٍ جرتْ بينهما نقول " قال هابيل لقابيل كذا، قال قابيل لهابيل كذا "، نقول مثلا قال لوط كذا، قال موسى كذا، وغير ذلك " كل هؤلاء ما كانوا يتكلَّمون العربية. إذن هذه الألفاظ التي نذكُرُها ونقول هي قولُهم هذه ليس عينَ ما قالوه، ليس الذي قالوه نفسَه، لكنْ هذا عبارةٌ عن قولهم. لأنه عبارةٌ عن قولهم نقولُ عنه قولُهم. وكذلك الألفاظُ المنزَّلة على سيدنا محمد لأنها عبارة عن كلام الله الذي هو صفتُهُ نسمّيها أيضًا كلامَ الله. هذا الذي بين دَفَّتيْ المصحف نسميه كلامُ الله لأنه عبارةٌ عن كلام الله الذاتي، ليس معناه أنَّ الله يتكلَّمُ مثلَنا بحرف وصوت، مَرة نَطقَ بالعِبرانية ومرة نطق بالسريانية ومرة نطق بالعربية ومرة نطق بغير ذلك، حاشا وكلا، الله منزَّهٌ عن مثل ذلك، هذه صفةُ المخلوق، لكنْ نسمّي الكتب المنزَّلة على الأنبياء كلامَ الله لأنها تدلُّ على كلام الله الذاتي، لأنها عبارةٌ عن كلام الله الذي هو صفتُهُ، فيقالُ عنها أيضًا كلامُ الله.
-قال المؤلف : وهذه الكتبُ المنْزَلةُ كلُّها عباراتٌ عن ذلك الكلام الذاتيّ الأزليّ الأبديّ : الله أخبرنا في القرءان أنَّ إسماعيل قال لإبراهيم { يا أبَتِ افعلْ ما تؤمَر } أليس نحن نقول " قال إسماعيلُ لإبراهيم يا أبتِ افعل ما تؤمر ؟ ونقول " هذا قولُ إسماعيل " ولم يكونا يتكلَّمان العربية ولكنْ لأنَّ هذا عبارةٌ عمَّا قال إسماعيل سمَّيْناه كلامَ إسماعيل. والـمُنَزَّلُ على النبيّ عليه الصلاة والسلا،م القرءانُ المنزَّل بالعربية عبارةٌ عن كلام الله الذي هو صفتُهُ لذلك سمَّيناه " كلامَ الله "، جاء في الشرع تسميَتُهُ بـ " كلام الله " ليس معناه أنَّ هذا هو صفةُ الله، لا.
-قال المؤلف : ولا يَلْزَمُ من كونِ العبارة حادثةً كونُ المعبَّرِ عنه حادثًا : ليس شرطًا إذا كانت العبارة مخلوقة أنْ يكونَ ما تدلُّ عليه هذه العبارة مخلوقًا. أليس نقول " الله " هذه عبارة مخلوقة، لفظٌ مخلوق، وهل يقال " ذاتُ الله " مخلوق "؟!!! لا. ليس شرطًا إذا كانتِ العبارةُ مخلوقةً أنْ يكونَ الـمُعَبَّرُ عنه، أي ما تدلُّ عليه العبارةُ مخلوقة.
-قال المؤلف : ألا ترى أننا إذا كتبنا على لوح أو جدار " الله " فقيل " هذا الله " فهل معنى هذا أنَّ أشكال الحروف المرسومة هي ذات الله ؟ لا. لا يتوهمُ هذا عاقلٌ : لا أحد يفهم أننا إذا كتبنا لفظَ الجلالة " الله " على اللوح أو الحائط فقيل ما هذا ؟ يقال " الله " لا أحد يفهم أنَّ هذا هو ذاتُ الله الذي نعبُدُه، أننا نعبُدُ هذه الحروف، لا.
-قال المؤلف : إنما يُفْهَمُ من ذلك أنَّ هذه الحروف عبارةٌ عن الإله الذي هو موجودٌ معبودٌ خالقٌ لكلِّ شىء : هذا اللفظ " الله " يدلُّنا على الإله المعبود، عبارةٌ عن الإله المعبود سبحانه. أي وكذلك اللفظُ المنزَّلُ على النبيّ عليه الصلاة والسلام يدلُّ على الكلام الذاتي، عبارةٌ عن الكلام الذاتيّ الذي هو ليس مخلوقًا كصفات المخلوقين.
-قال المؤلف : ومع هذا لا يقال القرءانُ وغيرُهُ من الكتب المنْزَلةِ مخلوق : مع ذلك لا نقول "القرءانُ مخلوق " فقط هكذا. أليس قلنا " القرءان يطلَق على الكلام الذاتيّ ويطلَقُ على اللفظ المنزَّل ؟ بلى، فإذا قلنا فقط هيك " القرءان مخلوق " هذا يوهمُ أنَّ كلام الله مخلوق، كلامُ الله الذي هو صفتُهُ مخلوق، يوهِمُ ذلك. لذلك لا يجوز أنْ نقول " القرءان مخلوق " فقط هكذا لأنَّ هذا يوهم أنَّ كلام الله الذي هو صفتُهُ مخلوقة. لا يجوز أنْ نقول " التوراةُ مخلوقة " فقط هكذا لأنَّ هذا يوهمُ أنَّ كلام الله الذي هو صفتُهُ مخلوق. لكنْ نشرح، نقول القرءان له إطلاقان، إذا قُصِدَ بالقرءان صفةُ الله القائمةُ بذاته فصفةُ الله لا ابتداءَ لها ولا انتهاءَ لها، ليست مخلوقة. أمَّا إذا قُصِدَ بالقرءان اللفظُ المنزَّلُ على النبيّ عليه الصلاة والسلام باللغة العربية فلا شك أنَّ اللغة مخلوقة وأنَّ هذه الألفاظ مخلوقة. بهذه الطريقة مع هذا الشرح يجوز، أمَّا أنْ نقول فقط هيك لفظ " القرءانُ مخلوق " لا يجوز لأنه يُوهِمُ معنىً فاسدًا.
-قال المؤلف : لكنْ يُبيَّنُ في مقام التعليم أنَّ اللفظَ المنزَّلَ ليس قائمًا بذات الله بل هو مخلوقٌ لله لأنه حروفٌ يَسبِقُ بعضُها بعضًا : هكذا اللفظُ المنزَّل حروف، " بسم الله الرحمن الرحيم " عندما أنا ألفِظُ " الباء " السين لا تكونُ موجودة، ثم عندما ألفِظُ " السين " تكونُ الباءُ انتهت والميم ليست موجودة، ثم عندما ألفِظُ الميم تكونُ السين انتهت، وهكذا، هذه صفةُ المخلوق، حادث، الله لا يجوزُ أنْ يوصَفَ بذلك. لكنْ هذه العبارات، هذا الذي أنزَلَه الله على النبيّ عليه الصلاة والسلام وليس من تأليف جبريل ولا من تأليف سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام أنزله اللهُ عليه عبارةً عن صفته، عبارةً عن كلامه الذي هو صفتُهُ، يدلُّ عليه لذلك نسمّيه أيضًا " كلامَ الله " هذا يسمَّى كلامَ الله وهذا يسمَّى كلامَ الله.
-قال المؤلف : وما كان كذلك حادثٌ مخلوقٌ قطعًا، لكنه ليس من تصنيف ملك ولا بشر فهو عبارةٌ عن الكلام الذاتيّ الذي لا يوصفُ بأنه عربيّ ولا بأنه عِبرانيّ ولا بأنه سُريانيّ : إذن هو عبارةٌ عن الكلام الذاتيّ، يدلُّ على الكلام الذاتيّ، كما شرحنا.
-قال المؤلف : وكلٌّ يُطْلَقُ عليه كلامُ الله، أي أنَّ صفةَ الكلامِ القائمةَ بذات الله يقالُ لها كلامُ الله، واللفظَ المنزَّل الذي هو عبارةٌ عنه يقالُ له كلامُ الله : كما لو حَكَيْتُ لكَ أنا ماذا قال رئيس الدولة الفلانية الذي هو غيرُ عربي وقلتُ لك بالعربية " قال كذا وكذا وكذا " أليس هذا الذي أكونُ قلتُ لكَ عنه قولَه ؟ بلى، يكونُ قولَه. كيف نسمّيه قولَه مع أنه ليس عربيًّا ولا يتكلَّمُ العربية ؟ لأنه عبارةٌ عن كلامه. وكذلك اللفظُ المنزَّل على سيدنا محمد عبارةٌ عن كلام الله الذي لا يشبه كلامَنا فيُسَمَّى لذلك أيضًا " كلامَ الله ".
-قال المؤلف : والإطلاقان من باب الحقيقة : إيه، ليس مجازًا، هذا حقيقة شرعية وهذا حقيقةٌ شرعية. يُطلَقُ القرءان على صفة الله حقيقةً، هذا حقيقةٌ شرعية. ويُطلَقُ على اللفظ المنَزَّل الذي هو عبارةٌ عن الصفة هذا أيضًا حقيقةٌ شرعية، ليس مجازًا.
-قال المؤلف : لأنَّ الحقيقة إمَّا لغويةٌ وإمَّا شرعيةٌ وإمَّا عُرفيةٌ : أهل اللغة يقولون " إطلاقُ اللفظ على الحقيقة يكونُ إمَّا حقيقةً لغوية وإمَّا حقيقةً عُرفية وإمَّا حقيقةً شرعية " وإطلاقُ القرءان على اللفظ المنزَّل على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام حقيقةٌ شرعية. وسأرجِعُ إنْ شاء الله إلى بيان النوعين الآخَرين.
-قال المؤلف : وإطلاقُ القرءان على اللفظ المنزَّل حقيقةٌ شرعية فَلْيُعْلَم ذلك : نعم.
-قال المؤلف : وتقريبُ ذلك كما تقدَّمَ أنَّ لفظ الجلالة " الله " عبارةٌ عن ذات أزليّ أبديّ. فإذا قلنا نعبُدُ اللهَ فذلك الذاتُ هو المقصود، وإذا كُتِبَ هذا اللفظُ فقيلَ ما هذا ؟ يقالُ " الله " بمعنى أنَّ هذه الحروفَ تدلُّ على ذلك الذات الأزليّ الأبديّ لا بمعنى أنَّ هذه الحروف هي الذاتُ الذي نعبُدُه : كما سبق وبيَّنّا، هذا إعادةٌ لـِمَا سَبَقَ أنْ بَيَّنَّاه. بقِيَ شىءٌ وهو أنَّ الحقيقة، قلنا الحقيقةُ قد تكونُ لغوية وقد تكونُ شرعية وقد تكونُ عُرفية، ما معنى ذلك ؟ المقصودُ بالحقيقة هنا الحقيقة اللغوية أنْ يستعملَ اللفظُ في المعنى الذي هو في الأصل موضوعٌ له في اللغة، مثلا أنْ يستعملَ هذا اللفظ البحر بمعنى مَجْمَع الماء الكبير، فهذا يقالُ عنه حقيقةٌ لغوية استعمالُهُبلهذا المعنى، لأنَّ البحر في الأصل في اللغة موضوع لهذا المعنى. أمَّا إذا استعملنا البحر بمعنى الإنسان الكريم فهنا يكونُ استُعمِل بغير المعنى الموضوعِ له في أصل اللغة، فهذا الإستعمالُ لا يقال عنه حقيقةٌ لغوية إنما هو مجاز. أمَّا الحقيقةُ الشرعية فهو أنْ يستعمَلَ اللفظُ بالمعنى الذي وُضِعَ له في الشرع أصلا مثل الصلاة وُضِعَتْ في الشرع أصلا لأفعال معلومة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم. يعني أنَّ هناك ألفاظًا موضوعةٌ في العُرْف لمعنىً معيَّن، هناك كلمات موضوعةٌ في العُرْف لمعنىً معيَّن، استعمالُها في المعنى الذي وُضِعَتْ له يقال عنه حقيقة عرفية مثل شو ؟ مثلا الدابة في عرف الناس ما معناها ؟ معناها البهيمة التي لها أربعة أرجل كالحمار والبغل ونحو ذلك، هذا يقال له " حقيقة عرفية " في عرف الناس هذا الذي يخطُرُ على الذهن أول ما يسمع الإنسان الدابة. لكنْ في الأصل في اللغة ليس هذا معناها، في اللغة معناها الحيوان، كل ما يَدِبّ على وجه الأرض، كل ما له روح يدِب على وجه الأرض هو الدابة. إذا استعملنا الدابة بمعنى البهيمة ذاتِ الأربع الأرجل الأربعة، بالعرف إذا كنا نتكلَّم على حسب العرف يكونُ هذا حقيقةً عُرْفية. هذا الفرق بين هذه الحقائق الثلاثة. الآن قد لا نحتاجُهُ كثيرًا لكنْ أحببتُ إيضاحَه حتى لا تَمُرَّ الكلمة من غير شرحها في هذا الكتاب. وأمَّا الذي نحتاجُ إلى فَهمه فيما يتعلقُ فيما ذكرناه أنَّ إطلاقَ القرءان على صفة الله هذا حقيقةٌ شرعية، وإطلاقَ القرءان على اللفظ المنزَّل على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام أيضًا حقيقةٌ شرعية. هذا حقيقة شرعية وهذا حقيقة شرعية، لا هذا مجاز ولا هذا مجاز.