fbpx

الصراط المستقيم – الدرس 15

شارك هذا الدرس مع أحبائك

-الدرس الخامس عشر : الحلقة السادسة عشر: -تقديرُ الله لا يتغيَّر : -قال المؤلف : اعلم أنَّ تقديرَ الله تعالى الأزليَّ لا يُغَيِّرُهُ شىءٌ : ما قَدَّرَ اللهُ تعالى في الأزل أنْ يكون يكون، تقديرُ الله الأزليّ لا يتغيَّر. -قال المؤلف : لا دعوةُ داعٍ ولا صَدَقَةُ متصدِّقٍ ولا صلاةُ مُصَلٍّ ولا غيرُ ذلك من الحسنات : الدعاءُ والصدقة والصلاة والحسنة كلُّ ذلك لا يُغيِّرُ تقديرَ الله. نحن بالدعاء نستفيد، هذه الأمور أحيانًا تكونُ سببًا لحصول الأمر لكنْ لا يتغيَّر تقديرُ الله. الله قَدَّر في الأزل أنْ يدعُوَ فلان فيكونُ دعاؤُه سببًا لحصول ما دعا به، كما أنه قَدَّرَ في الأزل أنْ يأكُلَ فلان فيكونُ أكلُهُ سببًا لِشِبَعِهِ، لحصول الشِّبَعِ له، فهذه الأمورُ كلُّها تحصُلُ بتقدير الله وتقديرُ الله لا يتغيَّر، سبحانه. -قال المؤلف : بل لا بد أنْ يكونَ الخلقُ على ما قُدِّرَ لهم في الأزل من غير أنْ يتغيَّرَ ذلك : لا بد أنْ يكونَ الخَلْقُ المخلوقاتُ على الحال التي قَدَّرَها اللهُ تعالى لهم في الأزل وهذا لا يتغيَّر. -قال المؤلف : وأمَّا قولُ الله تعالى { يمحوا اللهُ ما يشاءُ ويُثْبِتُ وعندَه أمُّ الكتاب } فليس معناه أنَّ المحوَ والإثباتَ في تقدير الله : بعض الناس لا يفهمُ هذه الآيةَ على وجهها. إذا قرأ { يمحوا اللهُ ما يشاء ويُثْبِتُ وعنده أمُّ الكتاب } يظنُّ أنَّ تقديرَ الله يتغيَّر وليس هذا معناها، ليس معنى الآية { يمحوا اللهُ ما يشاء } أي يُغَيِّرُ اللهُ ما شاءَه { ويُثْبِت } يشاءُ أمرًا لم يكنْ شاءَه في الأزل، ليس هذا معناها. -قال المؤلف : بل المعنى في هذا أنَّ الله جلّ ثناؤه قد كَتَبَ ما يُصيبُ العبدَ من عباده من البلاء والحِرمان والموت وغيرِ ذلك، وأنه إنْ دعا اللهَ تعالى أو أطاعَه في صلة الرحم وغيرِها لم يُصِبْهُ ذلك البلاءُ ورَزَقَهُ كثيرًا أو عَمَّرَه طويلا. وكَتَبَ في أمِّ الكتاب ما هو كائنٌ من الأمرين : فإذن بعضُهم قال " معنى هذه الآية { يمحوا اللهُ ما يشاءُ ويُثْبِتُ وعنده أمُّ الكتاب } قال " الله كَتَبَ في أمِّ الكتاب ما يحصُل من العبد، هذا لا يتغيَّر. والله تعالى جعل في كتب الملائكة، ما تكتُبُهُ الملائكةُ أنَّ فلانًا إنْ دعا الله لا يُصيبُهُ كذا وإنْ لم يَدْعُ يُصيبُهُ، والله عالمٌ هل سيدعو أو لا. فإذا دعا الله لا يُصيبُهُ الأمرُ الفلانيُّ، فيُمْحى من كتب الملائكة الأمرُ الثاني أنه إنْ لم يدعُ يُصيبُهُ كذا، لِيُمحى ذلك، هذا معنى الآية { يمحوا اللهُ ما يشاء ويُثْبِت وعنده أمُّ الكتاب } يعني يُغَيِّرُ اللهُ ما يشاء مِمَّا نَسَخَهُ الملائكةُ في كتبهم، وأمَّا ما يكونُ فإنَّ الله تعالى عالمٌ به بعلمه الأزليّ، قَدَّرَه بتقديره الأزليّ وهو لا يتغيَّر. هكذا يُروى عن ابنِ عباس وغيرِهِ في تفسير هذه الآية. -قال المؤلف : فالمحوُ والإثباتُ راجِعٌ إلى أحد الكتابين كما أشار إليه ابنُ عباس، فقد روى البيهقي عن ابنِ عباس في قولِ الله عزّ وجلّ { يمحوا الله ما يشاءُ ويُثْبِتُ وعندَه أمُّ الكتاب } قال " يمحو اللهُ ما يشاء من أحد الكتابين، هما كتابان يمحو اللهُ ما يشاء من أحدهما ويُثْبِتُ، وعندَه أمُّ الكتاب "ا.ه: { وعنده أمُّ الكتاب } هذا يدلُّ على ما عَلِمَهُ اللهُ في الأزل، هكذا يُروى عن ابن عباس في تفسير هذه الآية. -قال المؤلف : والمحوُ يكونُ في غير الشقاوة والسعادة : لأنَّ الشقاوة معناها الحالُ التي يموتُ عليها الإنسان من الكفر، والسعادة حالُ موتِ الإنسان على الإيمان، فهذا لا يُغَيَّر. وكيف يتغيَّر ؟!! هذا لا يدخُلُهُ التغيير. مَنْ شاء اللهُ له الموت على الشقاوة يموتُ شقيًّا، مَنْ شاء له الموت على السعادة يموتُ سعيدًا. أمَّا أحوالُ الإنسان الأخرى قبل الموت تتغيَّر، يكونُ غنيًّا فَيَفْتَقِر، يكونُ فقيرًا فيصيرُ غنيًّا، يكونُ جاهلا فيصيرُ عالـِمًا، يكونُ عالـِمًا فيصيرُ جاهلا. أمَّا إذا مات إمَّا أنْ يموتَ على الإيمان وإمَّا أنْ يموتَ على الكفر، فلا يتغيَّرُ ذلك. -قال المؤلف : فقد روى البيهقيُّ أيضًا عن مجاهِدٍ أنه قال في تفسير قولِ اللهِ تعالى { فيها يُفْرَقُ كلُّ أمرٍ حكيم } يُفْرَقُ في ليلة القدر ما يكونُ في السّنة من رِزْقٍ أو مصيبة : في ليلة القدر يُعْلِمُ اللهُ تعالى الملائكةَ بما سيحصُلُ في السنة القادمة. فلان يحصُلُ له كذا من الرزق، فلان تُصيبُهُ مصيبةُ كذا، وهكذا. -قال المؤلف : قال مجاهد " فأمَّا كتابُ الشقاء والسعادة فإنه ثابتٌ لا يُغَيَّر " ا.ه : أمَّا هذا لا يدخُلُهُ تغيير. -قال المؤلف : فلذلك لا يَصِحُّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الدعاءُ الذي فيه " إنْ كنتَ كتبتني في أمِّ الكتاب عندكَ شقيًّا فامحُ عني اسمَ الشقاء وأثْبِتني عندكَ سعيدًا : هذا لا يَصِحُّ عن النبيّ عليه الصلاة والسلام. -قال المؤلف : فلا يصح عن رسول الله الدعاء الذي فيه " وإنْ كنتَ كتبتني في أمِّ الكتاب محرومًا مُقَتَّرًا عليَّ رِزقي فامحُ عني حِرماني وتقتيرَ رزقي وأثبِتني عندكَ سعيدًا موفَّقًا للخير، فإنكَ تقول في كتابِكَ { يمحوا اللهُ ما يشاءُ ويُثْبِتُ وعندَه أمُّ الكتاب } ولا ما أشبَهَه : يعني هذا الدعاء، مع أنَّ بعض الناس فَسَّره بتفسير لا يخالِفُ العقيدة، يعني بعض الناس أيْش قال معناه ؟ يا ربِّ إذا كنتَ، قال معنى هذا الدعاء، يا ربِّ إذا كنتَ شئتَ لي أنْ أكونَ مدةً من الزمن شقيًّا على حال الشقاوة فغَيِّر حالي، يا ربِّ إنْ شئتَ لي أنْ أكونَ مدةً من الزمن على حال الفقر والحِرمان فغيِّر حالي " مثلُ هذا لا ينافي العقيدة، تفيسيرُهُ بهذا لا ينافي العقيدة، لكنْ مع ذلك هذا لم يصحَّ عن النبيّ عليه الصلاة والسلام ولا صَحَّ عن سيدنا عمر أو غيره من الصحابة. يعني مع أنَّ تفسيرَه بما ذكرناه صحيح لكنْ لم يَصِحّ، وإذا قيل أمام العامّة فإنه يُوهِمُهُم معنىً غير صحيح إلا مَنْ حَفِظَه الله، لأنَّ العوام لا يفهَمون هذا التفسيرَ الثاني، فيُخشى إذا أُلْقِيَ بينهم أنْ يَفهَموا منه ما لا ينبغي. بما أنه غيرُ ثابت يا ليتَ الشخصَ لا يستعمِلُهُ في النصف من شعبان، بل يدعو بغيره من الدعاء. -قال المؤلف : ولم يصِحَّ هذا الدعاءُ أيضًا عن عمرَ ولا عن مجاهد ولا عن غيرهما من السلف كما يُعْلَمُ ذلك من كتاب " القدر " للبيهقي : كما يُعْلَمُ من كتاب " القدر " لأنَّ البيهقي قال في كتاب " القدر " فإنْ صَحَّ "، :لو كان صحيحًا لكان كذا وكذا ". إذن هو لم يُصَحِّحه، لم يَحْكُمِ البيهقيُّ بصِحَّتِهِ. -قال المؤلف : وليُعْلَم أنَّ مشيئة الله وتقديرَه لا يتغيَّران لأنَّ التغيُّرَ مستحيلٌ على الله : وهذا سَبَقَ أنْ ذكرناه لأنَّ الذي يتغيَّر يكونُ محدَثًا له بداية ويحتاجُ إلى خالق، تعالى اللهُ عن ذلك. -قال المؤلف : وأمَّا حديثُ " لا يَرُدُّ القدرَ شىءٌ إلا الدعاء " فهذا راجِعٌ إلى القدر المعلَّق ليس إلى القدر الـمُبْرَم : يعني القدر، يوجدُ قَدَرٌ معلَّق وقَدَرٌ مُبْرَم. أولا لا بد من الإعتقاد أنَّ كلَّ ما يحصُلُ في هذا العالم عَلِمَه اللهُ قبل حصوله بعلمه الأزليّ، كلَّ ما يحصُلُ في هذا العالم شاء اللهُ حصولَه بمشيئته الأزلية، قَدَّرَهُ اللهُ بتقديره الأزليّ، خَلَقَهُ اللهُ بتخليقه الأزليّ، هذا لا بد من الإعتقاد به. ثم أحيانًا كما قلنا يكونُ مكتوبًا في صحف الملائكة " إذا فَعَلَ فلانٌ كذا يطولُ عُمُرُه، إذا لم يفعل يكونُ عُمُرُه كذا، إذا فَعَل يكونُ عُمُرُهُ كذا، أي أطول، إذا دعا لا يُصيبُهُ كذا، إذا لم يدعُ يُصيبُهُ هذا الشىء، هذا يقالُ له القضاءُ المعلَّق أو القدرُ المعلَّق. فأحيانًا إذا دعا الإنسانُ اللهَ يُمحى أحدُ هذين الأمرين، يُمحى الأمرُ الذي كان كُتِبَ إذا لم يَدْعُ يحصُلُ كذا وكذا، فهذا الذي يَرُدُّهُ الدعاء. أمَّا ما شاءه اللهُ في الأزل فلا يُغَيِّرُهُ شىء، الله عَلِمَ بعلمه الأزليّ وشاء بمشيئته الأزلية كلَّ ما يحصُلُ في هذا العالم. فهذا معنى حديث " لا يَرُدُّ القدرَ شىءٌ إلا الدعاء " يُمحى من كتب الملائكة هذا الشىءُ الذي كُتِبَ فيها " إذا لم يدعُ يُصيبُهُ كذا، فإذا دعا العبد يُمحى هذا الذي كُتِبَ في صُحُفِ الملائكة " وأمَّا اللهُ فعالـِمٌ أزلا بما يكونُ من العبد وشاء أزلا ما عَلِمَ أنه يكونُ منه. -تقسيمُ الأمور إلى أربعة : -قال المؤلف : الأمورُ على أربعة أقسام : هذا التقسيم إذا وضَحَ في ذِهْنِ الإنسان يرتاحُ كثيرًا لأنه يَتَّضِحُ له كيف تنقَسِم الأمور، ومهما سَمِعَ بعد ذلك يرجعُ مِمَّا يتعلقُ بهذا الموضوع يرجِعُ فيه إلى هذه القاعدة ويُنْزِلُهُ عليها. ما وافَقَها قَبِلَه وما عارَضَها رَدَّهُ. -قال المؤلف : الأولُ شىءٌ شاءَه اللهُ وأمَرَ به : فإذن الأمرُ الأول شىء اللهُ شاء حصولَه وأمَرَ به. -قال المؤلف : وهو إيمانُ المؤمنين وطاعةُ الطائعين : مثالُ ذلك إيمانُ المؤمنين، طاعةُ الطائعين. اللهُ أمَرَ بالطاعة والإيمان وشاء حصولَ ذلك، فآمَنَ من الناس مَنْ آمَن وأطاعوا. إيمانُ المؤمنين وطاعةُ الطائعين اللهُ تعالى أمرهم به وشاءَه منهم فَحَصَل. -قال المؤلف : والثاني شىءٌ شاءه اللهُ ولم يأمُرْ به وهو عِصيانُ العُصاة وكفرُ الكافرين : الأمرُ الثاني شىءٌ أراد اللهُ أنْ يحصُل لكنْ لم يأمر به وهو الكفرُ من الكفار والعِصيانُ من العصاة. اللهُ أمرهم بالإيمان، نهاهم عن الكفر والمعصية لكنْ شاء أنْ يكفروا ويعصُوا فَكَفروا وعَصَوْا. -قال المؤلف: إلا أنَّ الله لا يحبُّ الكفرَ مع أنه خَلَقَهُ بمشيئته ولا يرضاه لعباده، قال تعالى { ولا يرضى لعباده الكفرَ } : نعم، اللهُ شاء حصولَ الكفر منهم ولا يُحِبُّهُ، ولا يرضاه. -قال المؤلف : والثالثُ أمرٌ لم يشأه اللهُ وأمَرَ به : الثالثُ أمرٌ أمَرَ اللهُ به لكنْ لم يشأ حصولَه فلا يحصُل. -قال المؤلف : وهو الإيمانُ بالنسبة للكافرين الذين عَلِمَ اللهُ أنهم يموتون على الكفر، أُمِروا بالإيمان ولم يشأه لهم : هكذا، هذا هو. اللهُ تعالى عَلِمَ أنهم يموتون على الكفر، أمرهم بالإيمان لكنْ لم يشأ لهم الإيمان فلم يؤمنوا. -قال المؤلف : والرابعُ أمرٌ لم يشأه اللهُ ولم يأمُرْ به وهو الكفرُ بالنسبة للأنبياء والملائكة : اللهُ تعالى لم يأمُرْهم بالكفر ولم يشأ حصولَ الكفر منهم فلم يحصُل منهم الكفر. فإذن الأمور تنقسِم إلى أربعة أقسام، أمرٌ شاء اللهُ حصولَه وأمَرَ به كإيمان المؤمنين. أمرٌ شاء اللهُ حصولَه ولم يأمُرْ به كالكفر من الكافرين. أمرٌ أمَرَ اللهُ به ولم يشأ حصولَه كالإيمانِ من الكافرين، أمَرَهُمُ اللهُ بالإيمان لكنْ لم يشأ أنْ يؤمنوا فلم يؤمنوا. وأمرٌ لم يأمُرِ اللهُ به ولا شاء حصولَه كالكفرِ من الملائكة، لا أمَرَهُمُ اللهُ بالكفر ولا شاء حصولَه منهم فلم يكفُروا. -قال المؤلف : ومَنْ كان مؤمنًا بالقرءان الكريم فليَقِفْ عند قوله تعالى { لا يُسألُ عمَّا يفعلُ وهم يُسألون }. -قال المؤلف : فلا يقالُ كيف يُعَذِّبُ العصاةَ على معاصِيهم التي شاء وقوعَها منهم في الآخرة : في هذا بعضُ الناس يقول " إذا كان الله شاء حصولَ المعصية من العصاة كيف يُعَذِّبُهُم على ما معاصيهم التي شاء حصولَها منهم ؟ الجوابُ أنهم فعلوها بإرادتهم، إرادتُهم مخلوقة لا شك، إرادتُهم بمشيئة الله حاصلة لا شك، لكنْ هذا لا ينفي أنهم فعلوها بإرادتهم فكانتْ قبيحةً منهم، واللهُ تبارك وتعالى توعَّدَ الذي يفعلُ ذلك والذي يكفُرُ بالله عزّ وجلّ بنار جهنم خالدًا فيها. فاللهُ تبارك وتعالى يُعَذِّبُهُم على ما فعلوا بإرادتهم. لا يقالُ " كيف يفعلُ ذلك " لأنَّ الله يملِكُ كلَّ شىء { لا يُسألُ عمَّا يفعل وهم يُسألون } هكذا قال ربُّنا، لا بد من التسليم. اللهُ تبارك وتعالى أجاز لنا أكلَ الشاة، نذبَحُها، تتألَّمُ عند ذبحها، اللهُ يخلُقُ فيها هذا الألم، مع ذلك اللهُ أجازَ لنا ذلك. الشاةُ ما حَصَلَ منها معصية، مع ذلك يخلُقُ اللهُ فيها الألم، لا يقال " كيف يفعلُ ذلك " لأنه هو خالِقُها وهو ويفعلُ بها ما يُريد سبحانه وتعالى. مَنْ كان مؤمنًا بالقرءان يَقِفُ عند قول الله تعالى { لا يُسألُ عمَّا يفعلُ وهم يُسألون } ويقِفُ عند أمر أجمعَ عليه أهلُ الإيمان أنَّ اللهَ يفعلُ ما يفعلُ لحكمة عَلِمْناها أو جَهِلْناها. -توحيدُ الله في الفعل : هذا موضوعٌ ءاخر، ليس متعلِّقًا بالمشيئة، هذا موضوعٌ ءاخر، ليس عن المشيئة لكنه متعلِّقٌ بها وهو عن تخليق اللهِ تبارك وتعالى لكلِّ شىء، أنَّ كلَّ شىء في هذا العالم يوجَدُ بخلق الله، هذا معنى توحيدِ الله في الفعل، أي أنَّ الله لا شريكَ في الخلق والإبراز من العدم إلى الوجود. -قال المؤلف : رُوِيَ عن الجنيد إمامِ الصوفية العارفين عندما سُئِلَ عن التوحيد أنه قال " اليقين " : هكذا فَسَّرَه باليقين. التوحيد اليقين. -قال المؤلف : ثم استُفْسِرَ عن معناه : طُلِبَ منه أنْ يُبَيِّنَ أكثر ماذا يريدُ باليقين. -قال المؤلف : فقال " أنه لا مُكَوِّنَ لشىء من الأشياء من الأعيان والأعمال خالقٌ لها إلا اللهُ تعالى " : هذا معنى اليقين، أنه لا مُكَوِّنَ لشىء، لا يُبْرِزُ لشىء من الأشياء لا عينًا حجمًا ولا عملا إلا اللهُ تبارك وتعالى، هو الذي يُبْرِزُها من العدم إلى الوجود. قال هذا هو التوحيد، معناه الذي لا يعتقدُ بهذا ليس على التوحيد، معناه الذي يعتقدُ أنَّ غيرَ الله يخلُقُ شيئًا واحدًا يكونُ جعل شريكًا لله في التخليق فلا يكونُ على التوحيد، هذا معنى كلامِ الجنيد رضي الله عنه. -قال المؤلف : قال تعالى { واللهُ خَلَقَكم وما تعمَلون } : ما مصدرية، إذن يكونُ المعنى " واللهُ خَلَقَكم وعَمَلَكم، أنتم وعملُكم مخلوقون لله تبارك وتعالى ". -قال المؤلف : وقال الرسول صلّى الله عليه وسلّم " إنَّ الله صانِعُ كلِّ صانِعٍ وصَنْعَتِهِ " : أي أنَّ الله خالقُ. الصانِعُ الأولى خالق، "إنَّ الله خالقُ كلِّ صانِعٍ وصَنْعَتِهِ" كلُّ صانِع خَلَقَهُ الله وعمَلُهُ خَلَقَهُ اللهُ تبارك وتعالى، هذا معنى الحديث. -قال المؤلف : رواه الحاكم والبيهقي وابنُ حبان من حديث حُذيفة. -قال المؤلف : إذِ العبادُ لا يخلُقون شيئًا من أعمالهم وإنما يكتَسِبونَها، فقد قال الله تعالى { الله خالقُ كلِّ شىء } تَمَدَّحَ تعالى بذلك لأنه شىءٌ يَخْتَصُّ به : { اللهُ خالقُ كلِّ شىء } اللهُ تعالى تَمَدَّحَ بذلك أي ذَكَرَ في القرءان هذا مدحًا لذاته، سبحانه، ولو كان له شريكٌ فيه لـَمَا تَمَدَّحَ به. من هنا يُعْلَمُ أنَّ الله هو وحده الخالقُ لكلِّ شىء، لا يُشارِكُهُ أحدٌ في خَلْقِ شىء من الأشياء. -قل المؤلف : وذلك يقتضي العُمُومَ والشمولَ للأعيان والأعمالِ والحركات والسَّكنات : لو أنَّ إنسانًا أراد أنْ يمدَحَ نفسَه فقال " أنا الذي أحكمُ على كذا " ثم تَبَيَّن أنه يوجَد واحد ءاخر يُشارِكُهُ في هذا الحكم، وثالث ورابع وخامس وسادس وعاشر وإلى مائة ومائتين وألف وألفين، هل يبقى له مَدْحٌ بهذا ؟!! لا يبقى، هل يبقى معنى لِتَمَدُّحِهِ بهذا ؟ لا يبقى. لو كان العبدُ يُشارِكُ اللهَ في التخليق لـمَا كان معنى لِتَمَدُّحِهِ عزّ وجلّ بقوله { اللهُ خالقُ كلِّ شىء } بل لكان خَلْقُ غيرِ الله أكثر من خَلْقِ الله لأنَّ المعتزلة على قولهم " الله يخلُقُ الأجسام وأمَّا الأعمال فيخلُقُها العباد " والأعمال أكثر من الأجسام بكثير بكثير بكثير بكثير، فيكونُ خَلْقُ غيرِ الله أكثر من خَلْقِ الله. فلا يكونُ معنى لِتَمَدُّحِ الله تعالى { اللهُ خالقُ كلِّ شىء } سبحانه. -قال المؤلف : وقال تعالى { قل إنَّ صلاتي ونُسُكي } : { صلاتي ونسكي } الصلاةُ والنُّسُك عملان إختياريان يحصُلان بإرادة الإنسان. -قال المؤلف : قال تعالى { ومحيايَ ومماتي } : أمران لا يحصُلان باختيار الإنسان. إذن { قل إنَّ صلاتي ونسكي } { قل } أي يا محمد، { إنَّ صلاتي ونُسُكي } ما يحصُلُ باختياري { ومحيايَ ومماتي } ما يحصُلُ بغير اختياري. -قال المؤلف : قال تعالى { لله ربِّ العالمين } : كلُّ ذلك مِلْكٌ لله، هو خَلَقَه. -قال المؤلف : قال تعالى { لا شريكَ له } : { لا شريكَ له } في خلقه ولا في مِلْكه. -قال المؤلف: قال تعالى{وبذلك أمِرْتُ وأنا أولُ المسلمين } : وهذا الذي أمَرَني اللهُ تعالى أنْ أقولَه { وأنا أولُ المسلمين } أي في زماني، أنا أولُ مَنْ جئتُ في زماني بتجديد الإسلام بعدما انقطعَ بين البشر الذين في الأرض. -قال المؤلف : ساق اللهُ الصلاةَ والنسكَ والمحيا والمماتَ في مَسَاقٍ واحد وجَعَلَها مِلْكًا له. فكما أنَّ الله خالقُ الحياةِ والموت كذلك اللهُ خالقٌ للأعمالِ الإختيارية كالصلاةِ والنسك والحركاتِ الإضطرارية من باب الأوْلى : إذا كان اللهُ هو خالقَ الحركات الإختيارية فبالأوْلى أنَّ الحركاتِ الإضطرارية التي لا اختيارَ للإنسان فيها أنْ تكونَ مخلوقةً لله. -قال المؤلف : وإنما تمتازُ الأعمالُ الإختيارية أي التي لنا فيها مَيْلٌ بكونها مكتَسَبَةً لنا : بأنها تقومُ بنا مع مشيئتنا، مع الميل في قلوبنا لفِعلها، هذا يتميَّزُ به الإختياريُّ من غير الإختياريّ، وكِلاهما بتخليقِ الله تبارك وتعالى. -قال المؤلف : فهي محلُّ التكليف : لأنها تحصُلُ بعزمِ العبد على فِعلها، مع عَزْمِ العبدِ على فِعْلِها يعني. -قال المؤلف : والكسبُ الذي هو فعلُ العبد وعليه يُثابُ أو يؤاخَذُ في الآخرة هو توجيهُ العبد قصدَه وإرادتَه نحو العمل : العبدُ يُوَجِّهُ قصدَه وإرادَته نحو العمل. -قال المؤلف : أي يَصْرِفَ إليه قدرتَهُ : يُوَجِّهُ إليه قدرتَه لِفِعْلِ هذا العمل. -قال المؤلف : فيخلقُهُ اللهُ عند ذلك : فَيَخْلُقُ اللهُ العملَ عند ذلك. فالعمل الذي يوجَد عندما يَصْرِفُ العبدُ قدرتَه ومشيئته لِفِعله يقال إنَّ العبد اكتَسَبَهُ، لكنْ ليس العبدُ هو الذي يخلُقُه إنما الذي يخلُقُه هو الله. أصلا مشيئةُ العبد بخلق الله وقدرةُ العبد بخلق الله والفِعْلُ الذي يوجَدُ بخلق الله. لكنْ عندما تجتمِعُ هذه الأمور أنَّ الفعلَ يقومُ بالعبد مع توجيهِ العبدِ قدرتَه لِفِعْلِهِ ومع توجيهِ قصدِهِ لِفِعْلِهِ يقالُ إنَّ العبد اكتَسَبَه ولم يخلُقْهُ، والخالقُ هو الله. -قال المؤلف : فالعبدُ كاسِبٌ لعمله والله تعالى خالقٌ لعملِ هذا العبد الذي هو كسبٌ له : كَسْبٌ للعبد. -قال المؤلف : وهو من أغمض المسائل في هذا العلم : وهو مسألةٌ تَغْمُضُ على بعض الناس، لكنْ فَهْمُها ليس صعبًا. -قال المؤلف : قال الله تعالى { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } : وهذا الذي ذكرناه يدلُّ عليه القرءان أنَّ ما كَسَبَهُ العبدُ من الخير يُثابُ عليه وما كَسَبَه من الشر يستحِقُّ عليه العقاب. -قال المؤلف : فليس الإنسانُ مجبورًا : ليس مجبورًا لأنَّ ما يكتَسِبُهُ العبد هو الفعلُ الذي يكونُ بمشيئة العبد، بتوجيه قصده وإرادته لفعله. -قال المؤلف : لأنَّ الجبر يُنافي التكليف : لأنَّ الله تعالى أخبرنا في القرءان أننا لا نؤاخَذُ على ما أُجْبِرْنا عليه، لأنه جاء في الشرع " عدمُ المؤاخذة على العمل الذي يكونُ الإنسانُ مجبرًا عليه ". -قال المؤلف: وهذا هو المذهبُ الحقُّ وهو خارجٌ عن الجَبْرِ والقَدَر : هذا الذي ذكرناه هو مذهبُ أهلِ السّنة، هو المذهبُ الصحيح الذي ليس هو مذهبَ الجبرية وليس مذهبَ القدرية، لا مذهبَ الذين ينفُون المشيئةَ عن العبد ولا مذهبَ الذين يدَّعون أنَّ العبدَ يخلُق. لا هذا ولا هذا . -قال المؤلف : أي مذهبِ الجبريةِ والقدرية : وَسَبَقَ أنْ بَيَّنَّا معنى ذلك. الجبرية الذين يعتقدون أنَّ الإنسان لا مشيئة له. والقدريةُ الذين يعتقدون أنَّ الإنسان له مشيئةٌ وقدرةٌ هو يقدِرُ بها ويخلِق، وليس على حسب تقدير الله يكتسِبُ الفعل. -قال المؤلف : ويكفُرُ مَنْ يقولُ إنَّ العبد يخلُقُ أعمالَه كالمعتزلة : وَمَنْ قال كما قال المعتزلة إنَّ العبد يخلُقُ أعمالَه فهو كافر لأنَّه لم يُوَحِّدِ اللهَ في الفعل، لأنه جعل لله شريكًا في التخليق { أم جعلوا لله شركاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فتشابَهَ الخلقُ عليهم قلِ اللهُ خالقُ كلِّ شىء وهو الواحدُ القهَّار } هذا ما جاء به كتابُ الله، فمنِ اعتقد بخلافه فهو كافر. -قال المؤلف : كما قال ابنُ عباس رضي الله عنه " كلامُ القدرية كفرٌ " : لـَمَّا سَمِعَ ابنُ عباس أنَّ بعض الناس يزعُمُ أنَّ الإنسانَ هو يخلُقُ فِعْلَه قال " هذا الكلامُ كفر ". -قال المؤلف : والقدريةُ هم المعتزلة : المعتزلةُ هم فرقة من القدرية. -قال المؤلف : قال أبو يوسف " المعتزلةُ زنادقة " : أيضًا أبو يوسف، الإمامُ المجتهد تلميذُ الإمامِ أبي حنيفة، المجتهدُ تلميذُ المجتهد قال " المعتزلةُ زنادقة " يعني كفار. -قال المؤلف : ووصَفَهم أبو منصورٍ التميمي في كتابه " الفرقُ بين الفرق " بأنهم مشركون : أيضًا أبو منصورٍ التميمي قال " هم مشركون " -قال المؤلف : وأبو منصور هو الذي قال فيه ابنُ حجرٍ الهيتميُّ هذه العبارة " وقال الإمامُ الكبيرُ إمامُ أصحابنا أبو منصورٍ البغدادي " وهو مِمَّنْ كَتَبَ عنهم البيهقيُّ في الحديث : أبو منصور البغدادي إمامٌ كبير، كان أستاذًا في ثمانية عَشَرَ فنًّا، يُدَرِّسُها كلَّها. هذا أبو منصور التميمي هو الذي ذَكَرَ هذه المسألة. كان رأسًا في الأشاعرة، رأسًا في الشافعية رحمه الله تعالى. وكذلك وَصَفَهم بالضلال والكفر مَنْ قبلَه من كبار الأئمة، الإمامُ الأشعريُّ وصَفَ كلامَهم بأنه شرك، والإمامُ الماتريديّ أيضًا وصفَ كلامَهم بأنه كفرٌ. تكفيرُهُم إجماع بين السلف. -قال المؤلف : ولا تغترَّ بعدم تكفير بعضِ المتأخرين لهم، فقد نَقَلَ الأستاذُ أبو منصور التميميُّ البغداديُّ في كتابه " أصولُ الدين " وكذلك في كتابه " تفسيرُ الأسماءِ والصفات " تكفيرَهم عن الأئمة. -قال المؤلف : قال الإمامُ البغدادي في كتابه " تفسيرُ الأسماء والصفات " أصحابُنا أجمعوا على تكفير المعتزلة " : يعني الشافعية والأشاعرة مجمِعون على تكفير المعتزلة. -قال المؤلف : أي الذين يقولون " العبدُ يخلقُ أفعالَه الإختيارية " وكذلك الذين يقولون "فرضٌ على الله أنْ يفعلَ ما هو الأصلحُ للعباد " : لأنَّ المعتزلة عندهم عدة مقالات كفرية، منها أنهم يقولون " إنَّ العبد يخلُقُ فِعْلَه " ومنها أنهم يقولون " الله واجبٌ عليه أنْ يفعلَ ما هو الأصلحُ للعبد " يقولون " واجب فرض على الله " والعياذ بالله " أنْ يفعلَ ما هو الأصلح للعبد " وهذا كفر. قال أبو منصور " أصحابُنا مجمِعون على تكفيرهم ". من الغريب أنَّ بعض المتأخرين لا يُكَفِّرونَهم. النبيُّ عليه الصلاة والسلام صَحَّ عنه تكفيرُهم، وصحَّ تكفيرُهم عن أبي بكر وصحَّ تكفيرُهم عن عمر وصَحَّ تكفيرُهم عن عليّ وصحَّ تكفيرُهم عن غيرهم من الصحابة، وصَحَّ تكفيرُهم عن عدد من التابعين، وصَحَّ تكفيرُهم عن أتباع التابعين، ولم يعترِض على ذلك أو يُخالِفُ أحد. لذلك قال القاضي عِياض في " الشِّفا " إنَّ السلف متفقون على تكفيرهم ". بعد ذلك كيف يتجرأ إنسانٌ جاء بعد هذا على مخالفة هذا الإجماع ؟!!! كفَّروهم لأنهم خالفوا كتابَ الله، كَذَّبوا كتابَ الله وكَذَّبوا حديثَ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، وجعلوا لله تعالى شريكًا وجعلوا اللهَ تعالى عاجزًا ونَفَوْا عن الله ما يستحقُّ أنْ يوصَفَ به بالإجماع، بعد هذا كيف يجوزُ الإختلافُ في تكفيرهم ؟!! نَسَبوا إلى الله العجز، قالوا " الله كان قادرًا على فعل أفعال العباد، بعد أنْ أعطى العبادَ القدرةَ عليها صار عاجزًا " الذي يقولُ مثلَ هذا كيف يُتَوَقَّفُ في تكفيره ؟!!! كيف يقول بعضُ الناس " المعتزلة في تكفيرهم قولان، والراجحُ عدمُ تكفيرهم ". الله ربّي، ربُّنا في القرءان يُكَفِّرُهم والنبيُّ كَفَّرَهم والصحابةُ كفَّروهم والتابعون كفَّروهم وأتباعُ التابعين كفَّروهم والأئمةُ الأربعةُ كفَّروهم ثم يكونُ الراجحُ عدمَ تكفيرهم ؟!!!!!! مَنْ يقبَلُ هذا ؟ بأيِّ لسانٍ قال هؤلاء هذا ؟!!! شىءٌ عجيب. مثلُ هذا القول إذا سَمِعَهُ الواحدُ منا ينبغي أنْ لا يُلْقِيَ له بالا، هذا مردود، لا يُقْبَلُ من قائله. شذوذٌ نعوذُ بالله منه. الله يحفظُنا من مثلِ ذلك. -قال المؤلف : وقولُه " أصحابنا " يعني به الأشعريةَ والشافعية : رَجَعَ الكلام إلى أبي منصور البغدادي لـمَّا قال " أجمعَ أصحابُنا على تكفير المعتزلة " يريدُ بـ " أصحابنا " كما ذكرنا الأشاعرةَ والشافعية. -قال المؤلف : لأنه أشعريٌّ شافعيّ بل هو رأسٌ كبيرٌ في الشافعية كما قال ابنُ حجر وهو إمامٌ مُقَدَّمٌ في النقل : فوق أنه عالم كبير في أصول الدين، أبو منصور إمامٌ مُقَدَّمٌ في النقل يعني خبير يعرِفُ تاريخَ الفرقِ المختلِفة ويعرِفُ أقوالَهم، خبيرٌ في ذلك، واسِعُ العلمِ في ذلك. -قال المؤلف : معروفٌ بذلك بين الفقهاء والأصوليين والمؤرخين الذين ألَّفوا في الفرق. فمنْ أراد مزيدَ التأكدِ فليُطالِع كُتُبَه هذه. فلا يُدافَعُ نقلُهُ بكلام الباجوريّ وأمثالِهِ : بعدما قال أبو منصور هذا ونَقَلَ عليه إجماعَ الأشاعرة، بعد ذلك يأتي بعده بألف سنة أو بثمانمائة سنة أو نحو ذلك واحدٌ مثلُ الباجوريّ فيقولُ بخلاف ما قال، لا يُلقَى بال لـِمَا قالَه، لا لـِمَا قالَه الباجوريّ ولا لـِمَا قالَه أمثالُهُ مِمَّنْ يُعدُّونَ مثلَ التلامذةِ الصغار في أصول الدين أمام أبي منصورٍ وأمثاله، رحمه الله. -قال المؤلف : مِمَّنْ هو من قبل عصره أو بعدَه : لا يُتْرَكُ ما نَقَلَهُ الإمامُ أبو منصور لِيُؤخَذَ بكلام الباجوريّ، والباحوريُّ مثلُ التلميذِ الصغير أمامه. أبو منصور إمامٌ كبير في الأشاعرة، عارِفٌ مؤرخ، عارِفٌ جيدًا بمقالة أهل الفرق. لا يُتْرَكُ كلامُهُ لِيُؤخَذَ بكلام أمثالِ الباجوريّ أو مَنْ جاء بعده أو مَنْ كان قبلَه مِمَّنْ هو في طبقته، فرقٌ بين الطبقتين. ثم أبو منصور نقل إجماعَ الأشاعرة على ذلك، كيف يُتْرَكُ الإجماع بقولِ مَنْ جاء بعده ؟!!! لا يُتْرَك. -قال المؤلف : وأمَّا كلامُ بعضِ المتقدّمين مِنْ تركِ تكفيرهم فمحمولٌ على مثلِ بِشْرٍ الـمِرّيسيّ والمأمونِ العباسي : لكنْ بعض الكلام عن الأئمة المتقدِّمين يُفْهَمُ منه أنهم لم يكفِّروهم، إذا قال قائل هكذا. مثلا بعض الأئمة(أحمد) كان يقولُ عن المأمون العباسي أميرُ المؤمنين وكان بعضهم يقولُ عن المعتصِم مثلا أو الواثِق أميرُ المؤمنين، كيف هذا ؟ معناه لا يُكفِّرونَهم، لو كانوا يُكفِّرونَهم ما ذكروا ذلك. الجواب أنَّ هناك أناسًا نُسِبوا إلى المعتزلة لكنهم لم يعتقدوا كلَّ عقائدهم، أخذوا منهم بعضَ العقائد التي ليست كفرية، وأمَّا العقائدُ الكفرية فلم يأخذوها منهم، فنُسِبوا إليهم، وهؤلاء الذين لم يكفَّروا. فإذن، عندما لم يُكفِّروا قسمًا منهم هذا بالنسبة للقسم الذين لم يعتقِدوا كلَّ عقائِدِهم، إنما اعتقدوا بعضَ العقائد التي هي غيرُ مكفِّرة، أمَّا الذين اعتقدوا العقائدَ المكفِّرة فلم يختلِفوا في تكفيرهم بها. -قال المؤلف : فإنَّ بِشْرًا كان موافقَهم في القول بخلق القرءان : كان بِشْرٌ يقولُ " إنَّ القرءان مخلوق " لكنه لا يريدُ بذلك نفيَ صفةِ الكلام عن الله، إنما يذهبُ فِكْرُهُ إلى الألفاظ المنزَّلة، لكنه يُطْلِقُ هذا اللفظ. أئمةُ أهلِ السّنة منعوا من إطلاق هذا اللفظ حتى لا يُوهِمَ أنَّ الكلام الذي هو صفةُ الله مخلوق. أمَّا هو كان يُطْلِقُهُ، كان يقول "القرءان مخلوق " ويريدُ بهذا اللفظَ المنزَّل، ولا يريدُ نفيَ صفة الكلام عن الله. وكذلك المأمونُ العباسي، لذلك ما كفَّروهما. -قال المؤلف : وكفَّرهم في القول بخلق الأفعال : أمَّا مسألةُ خلقِ الأفعال فلم يُوافِقْهم فيها، ما كان يقولُ كما كانوا يقولون. والمأمونُ العباسيُّ أيضًا ما كان يقولُ كما كانوا يقولون. حتى إنَّ بعض رؤوس المعتزلة كان يقولُ عن المأمون العباسي " عاميّ " لأنه لا يُوافِقُهُم في هذه المسألة، لا يُوافقُهُم في أنَّ العبد يخلُقُ فعلَه. كان يحتَقِرُهُ، يقول " عاميّ " لأنه لا يُوافِقُهُم فيها. -قال المؤلف : فلا يُحْكَمُ على جميع منِ انتسب إلى الإعتزال بحكم واحد ويُحْكَمُ على كلِّ فرد منهم بكونه ضالا : كلُّ مَنِ انتسَبَ إلى الإعتزال ضال لأنه خرج عن عقيدة أهل السنّة، لكنْ لا يُحْكَمُ على الكلِّ بأنه كفار لأنَّ منهم مَنْ لم يَصِل إلى حدِّ الكفر.