بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على سيدنا محمّد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهر
سنكمل إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الملك.
روي أن مشركي مكة كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان جبريل عليه السلام يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قالوا فكان يقول بعض المشركين لبعض والعياذ بالله أسروا قولكم أخفوا قولكم حتى لا يسمع إله محمد.
فالله عزّ وجلّ عالم بكل شىء لا يخفى عليه شىء فهؤلاء المشركون والعياذ بالله كانوا يعتقدون أن الله لا يعلم السر من قولهم وهذا اعتقاد مخالف للدين مناقض للإيمان فمن اعتقد أنّ الله عزّ وجلّ يخفى عليه شىء هذا لا يكون مؤمنا بالله وقد ردّ الله عزّ وجلّ عليهم فقال سبحانه وتعالى: {وأسروا قولكم أو اجهروا به إنّه عليم بذات الصدور} أسروا قولكم أخفوا قولكم أيها النّاس أو اجهروا به أعلنوه وأظهروه معناه إن أخفيتم قولكم أو جهرتم به فإنّ الله عزّ وجلّ عليم بما في القلوب من الخير والشر فكيف بما نطقتم به كيف لا يعلم ذلك وهذه الآية فيها استواء الأمرين أي الإسرار والجهر في علم الله سبحانه وتعالى.
{ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} كيف لا يعلم الله وهو الذي خلق هذا العالم كيف لا يعلم بقولهم إن كان سرًا أو كان جهرًا وهو الله سبحانه وتعالى اللطيف العالم بخفايا الأمور الخبير أي العالم بِكٌنْهِ الشيء المطّلع على حقيقته فلا يخفى على الله شىء.
وقد قال الله عزّ وجلّ في القرءان الكريم:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} معناه الله عزّ وجلّ خلق الإنسان ويعلم الله ما في قلب الإنسان وقال عزّ وجلّ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} أي أعلم به من نفسه وليس معناه أن الله قريب من الإنسان بالمسافة تعالى الله عن ذلك فإنّ الله عزّ وجلّ ليس جسمًا الجسم هو الذي يوصف بأنه قريب أو بعيد بالمسافة.
أما الله عزّ وجلّ فهو الخالق البارىء المصور سبحانه وتعالى لا يوصف بأي صفة من صفات الأجسام فالله عزّ وجلّ كان قبل خلق المكان موجودًا بلا مكان وبعد أن خلق المكان ما زال موجودا بلا مكان سبحانه وتعالى.
فمعنى الآية {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} أي أعلم بالإنسان من نفسه.
وقال سبحانه وتعالى في سورة طه:{وإن تجهروا بالقول فإنّه يعلم السر وأخفى} أي إن تجهر بالقول أي ترفع صوتك فإن الله عزّ وجلّ يعلم السر أي يعلم ما أسررته إلى غيرك وأخفى أي أخفى منه وهو ما أسررته في نفسك.
ثم قال الله عزّ وجلّ: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا} أي إن الله عزّ وجلّ جعل لكم أيها الناس الأرض سهلة تستقرون عليها يمكن المشي فيها والحفر للآبار بناء الأبنية زرع الحبوب غرس الأشجار فيها وغير ذلك {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه} فامشوا في مناكبها فامشوا في طرقاتها فامشوا في جبالها فامشوا في جوانبها {وكلوا من رزقه} مما أحله الله عزّ وجلّ لكم.
{وإليه النّشور} أي المرجع يوم القيامة فتبعثون من قبوركم للحساب والجزاء.
ثم خوف الله كفار مكة فقال:{ ءَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } أي أتأمنون من في السماء أتأمنون أهل السماء أي أتأمنون الملائكة أن يخسفوا بكم الأرض كما خُسفت بقاروون وكما خُسفت بقرى قوم لوط فإذا هي تمور تضطرب وتتحرك بأهلها والمعنى أنّ الله عزّ وجلّ يحرك الأرض بقدرته عند الخسف بهم حتى يقلبهم إلى أسفل وتعلو الأرض عليهم وتمور فوقهم أي تجيء وتذهب وقد خُسفت الأرض بقاروون كما ورد في سورة القصص: {فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين}.
وهنا فائدة مهمة جدًا بتفسير قوله تعالى: { ءَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} ذكر أهل التفسير عند بيان معنى هذه الآية أنّ الله عزّ وجلّ لا يوصف بالمكان ولا يتحيز في جهة من الجهات لأن ذلك من صفات الأجسام والله تعالى ليس جسمًا كبيرًا ولا جسمًا صغيرًا فلا يسكن الله السماء ولا يسكن الله العرش ولا يجلس الله على العرش فربّنا تبارك وتعالى موجود بلا جهة ولا مكان.
ثم قال الله عزّ وجلّ: {أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} أي أتأمنون الملائكة الذين هم في السماء أن يرسلوا عليكم حاصبًا أي ريحًا ذات حجارة كما أُرسلت على قوم لوط { فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} أي فستعلمون حين ينزل بكم العذاب أن إنذاري بالعذاب حق حين لا ينفعكم العند.
ثم قال الله عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي ولقد كذب المشركون الذين كانوا من قبل كفار مكة وهم الأمم الخالية كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين وقوم فرعون فإنهم كذبوا ما جاءت به الرسل فكيف كان إنكاري عليهم أليس وجدوا العذاب حقًا بلى.
ولما حذّرهم الله عزّ وجلّ ما يمكن إحلاله بهم من الخسف وإرسال الحاصب نبههم الله عزّ وجلّ على الاعتبار بالطير وما أحكم من خلقها فقال عزّ وجلّ: {ألم يروا إلى الطير فوقهم صافّات ويقبضّن} أي ألم ير المشركون إلى الطّير فوقهم صافّات تطيروا فوقهم في الهواء باسطات أجنحتهن {ويقبضن} أي يضممن الأجنحة إلى جوانبهن {ما يمسكهنّ إلا الرّحمن} أي ما يمسكهن عن السقوط إلا الرحمن بقدرته سبحانه وتعالى {إنه بكل شىء بصير} فإن الله عزّ وجلّ عالم بكل شىء لا تخفى عليه خافية.
ثم قال الله عزّ وجلّ: {أمّن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن} أي من هذا الذي هو جند لكم أعوانٌ لكم ينصركم إذا أنزل الله عزّ وجلّ بكم العذاب والمعنى لا جند لكم يدفع عنكم عذاب الله.
{إن الكافرون إلا في غرور} أي ما الكافرون إلا في غرور تغرهم الشياطين بأنه لا عذاب ولا حساب {أمّن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه} أي من هذا الذي يرزقكم إن أمسك الله رزقه من هذا الذي يطعمكم ويسقيكم ويأتي بأقواتكم وينزل عليكم المطر إن أمسك الله رزقه إن قطع الله عنكم رزقه وقد قال الله عزّ وجلّ في سورة فاطر: {يا أيّها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غيرُ الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنّى تؤفَكون} والمعنى لا أحد يرزقكم إن حبس الله عنكم أسباب الرزق كالمطر والنبات وغيرهما.
ثم قال الله عزّ وجلّ: {بل لجوا في عتوٍ ونفور} أي تمادى الكفار وأصروا مع وضوح الحق في عتوٍ أي تكبر وعناد ونفور أي تباعد عن الحق وإعراض عنه.
نسأل الله عزّ وجلّ أن يثبتنا على الحق والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم