بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين و صلى الله على سيدنل محمد و على آله و صحبه الطيبين الطاهرين
سنتكلم إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الجن و هي سورة مكية روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال انطلق رسول الله صلى الله عليه و سلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ و قد حيل بين الشياطين و بين خبر السماء و أرسلت عليهم الشهب أي أرسلت الشهب على الشياطين فرجعت الشياطين فقالوا ما لكم فقالوا حيل بيننا و بين خبر السماء و أرسلت علينا الشهب قال ما حال بينكم و بين خبر السماء إلا ما حدث فاضربوا مشارق الأرض و مغاربها فانظروا ما هذا الأمر الذي حدث فانطلقوا فضربوا مشارق الأرض و مغاربها ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم و بين خبر السماء قال فانطلق الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بنخلة أي بمكان اسمه نخلة و هو عامد عليه الصلاة و السلام إلى سوق عكاظ و هو يصلي وصل إليه هؤلاء الجن و هو عليه الصلاة و السلام يصلي و هو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن تسمعوا له فقالوا هذا الذي حال بينكم و بين خبر السماء فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به و لن نشرك بربنا أحدا و أنزل الله عز و جل على نبيه صلى الله عليه و سلم (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن) و إنما أوحي إليه قول الجن.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم( بسم الله الرحمن الرحيم قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا) قل أي يا محمد قل للناس أوحي إلي أي أوحى الله إلي أنه استمع لقراءة القرآن نفر أي جماعة من الثلاثة إلى العشرة من الجن, و الجن صنف من خلق الله تعالى خلقهم الله تعالى من مارج من نار يستترون عن أعين الناس لا يرونهم, و قد قال الله عز و جل في سورة الحجر (و الجان خلقناه من قبل من نار السموم ) الجان المراد به أبو الجن و هو إبليس خلقه الله عز و جل من قبل أي من قبل آدم عليه السلام خلقه الله عز و جل من نار السموم أي من نار الحر الشديد النافذ في المسام و قال الله عز و جل في سورة الرحمن (و خلق الجآن من مارج من نار) أي أن الله عز و جل خلق الجان أي أبا الجن و هو إبليس من مارج و المارج هو اللهب الصافي الذي لا دخان فيه و هو من نار فهؤلاء النفر من الجن بعد أن استمعوا قراءة القرآن من رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يصلي رجعوا إلى قومهم فقالوا أي قال الجن لقومهم حين رجعوا إليهم من استماع قراءة النبي صلى الله عليه و سلم إنا سمعنا قرآنا عجبا أي بليغا لم يعهد مثله بفصاحة كلامه و حسن مبانيه و دقة معانيه و بلاغة مواعظه و في هذه الآية إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث إلى الجن كما بعث إلى الإنس و أنهم مكلفون و يستمعون كلامنا و يفهمون لغاتنا و أن المؤمن منهم يدعو غيره من قبيلته إلى الإيمان
(يهدي إلى الرشد فآمنا به و لن نشرك بربنا أحدا) يهدي أي القرآن يهدي القرآن يدعو إلى الرشد يدعو إلى الحق يدعو إلى الصواب يدعو إلى التوحيد و الإيمان فآمنا به أخبروا قومهم بأنهم آمنوا بالقرآن و أخبروهم بأنهم لن يشركوا بعد ذلك بالله, كما قال الله عز و جل إخبارا عنهم (فآمنا به) أي بالقرآن (و لن نشرك بربنا أحدا) أي لن نشرك بربنا أحدا من خلقه.
(و أنه تعالى جد ربنا ما اتخد صاحبة و لا ولدا) و أخبروا أيضا قومهم بأن الله عز و جل منزه عن الصاحبة أي منزه عن الزوجة و منزه عن الولد لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد و أنه تعالى جد ربنا الجد معناه العظمة فجد ربنا معناه عظمة ربنا و المعنى تنزه جلاله و عظمته عما نسب إليه من اتخاذ الصاحبة و الولد و العياذ بالله ما اتخذ صاحبة أي ليس له زوجة و لا ولدا ليس له أولاد فإن الله عز و جل منزه عن ذلك فهو عز و جل واحد لا شريك له و لا مثيل له سبحانه و تعالى
(و أنه كان يقول سفيهنا على الله شططا) قال الجن لقومهم إن سفيهنا و أرادوا به إبليس كان يقول على الله شططا أي كلاما باطلا أي كذبا و عدوانا و ظلما و هو وصفه تعالى بالشريك و الولد. فالشطط هو مجاوزة الحد في الظلم و غيره. فالسفيه هو الجاهل فيحتمل أنهم أرادوا بهذا اللفظ إبليس و يحتمل أنهم أرادوا به المشرك من الجن
(و أنا ظننا أن لن تقول الإنس و الجن على الله كذبا) يقول هؤلاء النفر من الجن الذين سمعوا القرآن و آمنوا به ظننا أي حسبنا أن لن تقول الإنس و الجن على الله كذبا أي قولا كذبا و المعنى أنا كنا نظن أن أحدا لا يجترئ على الكذب على الله فينسب إليه الصاحبة و الولد فاعتقدنا صحة ما أغوانا به إبليس و مردته حتى سمعنا القرآن فعرفنا الحق و تبينا أنهم كاذبون
(و أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا) معنى ذلك أنه كان رجال في الجاهلية من الإنس يستعذون برجال من الجن أي إن الرجل كان إذا أراد المبيت أو الحلول في واد نادى بأعلى صوته يا عزيز هذا الوادي إني أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك فيظن بذلك أن هذا الجني الذي بالوادي يحميه قال الله عز و جل (فزادوهم رهقا) أي زادوا الجن الإنس رهقا أي خطيئة.
(و أنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا) و أنهم أي كفار الإنس ظنوا كما ظننتم أيها الجن أن لن يبعث الله أحدا أي قال الجن لقومهم إن من الإنس من ينكر البعث كما أن فيكم من ينكر البعث بعد الموت
(و أنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا و شهبا) يخبر هؤلاء الجن أيضا بأنهم طلبوا السماء لمسنا السماء أي طلبنا السماء و قصدنا بلوغ السماء لاستماع كلام أهلها و هي الملائكة فوجدناها أي فوجدنا السماء قد ملئت حرسا شديدا أي ملائكة حافظين حافظين من أن تقربها الشياطين و وجدوا أيضا الشهب و شهبا و الشهب جمع شهاب و هو ما يرجم به الشياطين إذا استمعوا
(و أنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع) أي يخبر الجن أيضا بأنهم كانوا يقعدون منها أي من السماء مقاعد للسمع أي مواضع يقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء قبل المبعث أي قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه و سلم كان مردة الجن يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة و ليسترقوا الكلمة حتى يلقوها إلى الكهنة و يزيدون معها كذبا ثم يزيد الكهان في الكلمة مائة كذبة فما الذي حصل بعد بعث النبي صلى الله عليه و سلم
( فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا) أي من يرد الاستماع الآن بعد بعث الرسول صلى الله عليه و سلم يجد له شهابا رصدا يعني شهاب نار قد رصد له ليرجم به
( و أنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا) يقول هؤلاء الجن بعد أن رأوا الملائكة و رأوا الشهب لا ندري أعذابا أراد الله أن ينزله بأهل الأرض بمنعه إيانا السمع من السماء و رجمه من استمع منا فيها بالشهب أم أراد بهم ربهم خيرا و رحمة. و يخبر الجن أيضا بأن منهم من هو صالح و منهم من هو دون ذلك كما قال الله عز و جل إخبارا عنهم:
(و أنا منا الصالحون و منا دون ذلك كنا طرائق قددا) فهذا إخبار من الجن بما هم عليه من الصلاح و غيره (و أنا منا الصالحون) أي المؤمنون المتقون العاملون بطاعة الله عز و جل (و منا دون ذلك) أي و منا دون ذلك في الصلاح أي فيهم الأبرار فيهم الأتقياء و فيهم من هو غير كامل في الصلاح. و معنى (كنا طرائق قددا) أي أهواء مختلفة و فرقا شتى
(و أنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض و لن نعجره هربا) و معنى الآية أن الجن قالوا لن نعجز الله كائنين في الأرض أينما كنا فيها و هاربين منها إلى السماء معناه هم يقرون بقدرة الله عز و جل و أن الله عز و جل لا يعجزه شيء فهو عز و جل قادر عليهم سواء كانوا في الأرض أو هربوا منها إلى جهة أعلى فإن الله عز و جل عالم بهم و قادر عليهم
(و أنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا و لا رهقا) أي و لما سمع الجن القرآن الذي يهدي إلى الصراط المستقيم قالوا آمنا به أي صدقنا به و أقرارنا أنه حق من عند الله فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا أي لا يخاف نقصا من ثوابه و لا رهقا أي لا ترهقه ذلة يوم القيامة فالمؤمن لا يصيبه ما يصيب الكفار يوم القيامة من الهوان و الذل, نسأل الله عز و جل أن يحسن ختامنا و أن يحشرنا مع النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين
(و أنا منا المسلمون و منا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا) و أنا منا المسلمون أي الذين آمنوا بالله و رسوله محمد صلى الله عليه و سلم و منا القاسطون القاسطون أي الكافرون الجائرون عن الحق فقسط معناه جار أما أقسط فهو مقسط معناه عادل. قسط جار أقسط عدل فهنا اللفظ قاسطون معناه جائرون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا أي قصدوا طريق الحق و توخوه فالتحري هو طلب الأحرى أي طلب الأولى
(و أما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا) الجائرون عن طريق الحق هؤلاء هم القاسطون الجائرون عن طريق الحق و الإيمان هؤلاء أي كفار الجن هم حطب لجهنم توقد بهم جهنم كما توقد بكفار الإنس فكانوا لجهنم حطبا ففي هذه الآية دليل على أن الكفار من الجن يعذبون في النار فإن قيل كيف يعذبون في النار و هم مخلوقون من النار فالجواب أن يقال إن الجن تغيروا عن صفتهم الأصلية كما إن الإنس خلقوا من تراب و تغيروا عن صفتهم الأصلية ثم انقطع كلام الجن ورجع إلى كفار مكة فقال تعالى
(و أن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا) فهذا ما سنتكلم به إن شاء الله تعالى في درسنا القادم و الله أعلم و أح