الدرس الأول
الحمد لله الذي شرَّف أمّة محمد بالقرءان المجيد
والصلاة والسلام على سيدنا محمد الداعي بتوفيق الله إلى الأمر الرشيد
وعلى ءاله الأخيار وصحابته الأطهار
وبعد فإن علم التفسير علم جليل يُتوصل به إلى فهم معاني القرءان الكريم
ويُستفاد منه استنباطُ الأحكامِ الشرعيةِ والاتعاظُ بما فيه من القَصص والعبرِ إلى غيرِ ذلك من الفوائد، إضافةً إلى ما يُعرف به من أسباب نزول الآيات مع معرفة مكيّها ومدنيّها ومحكمها ومتشابهها وناسخها ومنسوخها وخاصها وعامها ووعدها ووعيدها وغيرِ ذلك.
وسنتكلم إن شاء الله تعالى في هذا الشهر المبارك في تفسير جزء قد سمع
والسورة الأولى فيه هي سورة المجادِلة
هذه السورة هي أولُ النصف الثاني من القرءان باعتبار عدد السور
فهي الثامنةُ والخمسون منها
وهي أول العُشْرِ الأخير من القرءان باعتبار عدد أجزائه
وليس فيها ءاية إلا وفيها ذكرُ لفظ الجلالة مرة أو مرتين أو ثلاثًا
وجُملة ما فيها أربعون لفظًا.
أخرج ابن ماجه في سننه وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: “بارك الذي وَسِعَ سمعُه كلَ شىء إني لأسمع كلام خَولةَ بنتِ ثَعْلَبَةَ ويخفى عليَّ بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله ﷺ وهي تقول: يا رسول الله أَكَلَ شبابي ونَثَرْتُ له بطني(أي كثر ولدي) حتى إذا كَبِرَتْ سِنّي وانقطع ولدي ظاهَرَ مني، اللهم إني أشكو إليك”. فما بَرِحَتْ حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات
{قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ}
فقول خولة ظاهر مني أي قال لها زوجها أنت علي كظهر أمي أي لا أجامعك
فالظهار لغة مأخوذ من الظهر وشرعا تشبيهُ الزوجِ زوجتَه غيرَ البائنِ بأنثى من محارمه وكان طلاقا في الجاهلية فَغَيَّرَ الشرعُ حكمه وهو حرام من الكبائر وأشهر صيغه أن يقول الرجل لزوجته أنت علي كظهر أمي وهي الصيغة المتعارف عليها في الجاهلية.
الاستعاذة
{قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}
{قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}
أي سمع الله بسمع أزلي أبدي لا كسمعنا ليس بأُذن ولا صماخ كلامَ المرأة وهي خولةُ بنتُ ثَعْلَبَةَ التي تحاورك وتراجعك في شأن زوجها وهو أوسُ بن الصامت المظاهرُ منها وكان قال لها: أنت عليَّ كظهر أمي،
{وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ}
أي تتضرع إليه، وتظهر ما بها من المكروه وكانت تشكو إلى رسول الله وَحدتها فليس لها أهل سوى زوجها وكانت تشكو فاقتها وصبيةً صغارًا إن ضمتهم إليه ضاعوا أي من عدم المتعهِد بالخدمة وإن ضمتهم إليها جاعوا أي من عدم النفقة لفقرها.
{وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا}
أي تراجعَكما، والمحاورةُ المراجعةُ في الكلام
{إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}
{إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي لما يتحاورانِه وغيرِ ذلك من كلام خلقه
{بَصِيرٌ} بما يعملون وبعمل جميع عباده.
{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ}
هذا توبيخ للذين يظاهرون من زوجاتهم فيقولون لهنَّ أنتنَّ علينا كظهور أمهاتنا
{مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ}
أي ما اللواتي يجعلونهنَّ من زوجاتهم كالأمهات بأمهاتٍ والمعنى ليس هنَّ بأمهاتهم ثم أكَّد ذلك بقوله
{إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ}
أي ما أمهاتُهم إلا الوالداتُ اللاتي ولدنهم فلا تُشَبَّهُ غيرُهن بهن في الحرمة إلا من ألحقها الله بهن كالمرضعات وأزواج الرسول.
{وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ القَوْلِ وَزُورًا} أي إن المظاهرين قالوا قولا فظيعًا لا يعرف في الشرع قالوا منكرا من القول و زورا أي كذبًا منحرفا عن الحق لما فيه من تشبيه الزوج زوجته بأمه في التحريم والأمهاتُ محرمات على التأبيد بخلاف الزوجات.
{وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}
{وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أي لذو عفو وصفح عن ذنوب عباده إذا تابوا منها وأنابوا
{غَفُورٌ} أي يغفر لهم ولا يعاقبهم عليها بعد التوبة، ولما بيَّن سبحانه وتعالى في هذه الآية أن قول الظهار الذي كان يصدر منهم هو قول منكر وزور بيَّن في الآية التي تليها حكم الظهار فقال عزَّ وجلَّ:
{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}
أي الذين يقولون لنسائهم أنتنَّ علينا كظهور أمهاتنا ثم يعودون لما قالوا
اختلف أهل العلم في بيان معنى «العود» في هذه الآية فقال الشافعي:”إن معنى العودِ لما قالوا هو السكوت عن الطلاق بعد الظهار زمانًا يمكنه أن يطلقها فيه فلا يطلقُها”. فإذا وجد هذا الإمساك استقرت عليه الكفارة
إذ تشبيه الزوجة بالأم يقتضي أن لا يمسكها زوجةً فإن أمسكها زوجة بعد ذلك
أي لم يحصل عقب الظهار فرقةٌ فقد عاد فيما قال ولزمته الكفارة قبل الجماع
فكفارتهم تحريرُ رقبة أي عتقُ رقبة مؤمنة سليمة من العيوب المضرة بالعمل والكسب من قبل أن يجامعها فلا يحل للمظاهر جماع زوجته التي ظاهر منها قبل أداء الكفارة
{ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} يعني أن غلظَ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار ولا تعاودوه
{وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي والله بأعمالكم التي تعملونها أيها الناس عالم لا يخفى عليه شىء وهو مجازيكم عليها فانتهوا عن قول المنكر والزور.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}
فمن لم يجد منكم ممن ظاهر من امرأته رقبة يعتقها فعليه صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا والشهران المتتابعان هما اللذان لا فصل بينهما بإفطارٍ في نهار شىء منهما
{فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} فمن لم يستطع الصيام لهرم أو مرض مزمن فكفارته إطعام ستين مسكينا
أي يعطي لكل واحد منهم مدًّا واحدًا
{ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ}
ذلك البيان والتعليم للأحكام لتصدقوا الله ورسوله في العمل بشرائع الله التي شرعها من الظهار وغيره
{تِلْكَ حُدُودُ اللهِ} أي ما وُصِفَ من الكفارة في الظهار وغيرُها من الأحكام هي الحدود التي حدّها الله لكم فلا تتعدَّوها
{وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} عذاب مؤلم في جهنم يوم القيامة.