سورة الحشر
ذكر أهل التفسير والسِّير أن رسولَ الله ﷺ خرج إلى مسجد قُباء ومعَه نفرٌ من أصحابه فصلَّى فيه ثم أتى بني النضير وهم طائفة من اليهود وكانت منازلهم ونخلُهم بناحية من المدينة وكان النبي عليه الصلاة والسلام حين قدم المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يكونوا عليه ولا له فكلَّمهم في أمر وهَمُّوا بالغدر به، وقال أحد اليهود أنا أظهر على البيت فأطْرَحُ عليه صخرة، فقال آخر لا تفعلوا والله ليُخْبَرَنَّ بما هممتم به، وجاء رسولَ الله ﷺ الخبرُ بوحي من الله تعالى فنهضَ سريعًا فتوجه إلى المدينة فلحقه أصحابه فقالوا: قُمْتَ ولم نَشْعُر؟! فقال:”هَمَّتْ يهودُ بالغدر فأخبرني الله بذلك فقمت“.
وأرسل إليهم رسولُ الله ﷺ :”أن اخرجوا من بلدتي فلا تُساكنوني وقد هممتم بما هممتم به، وقد أجَّلتكم عشرًا”. فمكثوا أيامًا يتجهَّزون فأرسلَ إليهم عبدُ الله بنُ أُبيِّ بنِ سلول وكان هذا الرجل منافقا أرسل هذا المنافق إلى بني النضير لا تخرجوا فإن معي ألفينِ من قومي وغيرَهم وتُمِدُكُم قُريظة وحلفاؤكم من غَطفان فطمع رئيس بني النضير فيما قال المنافق ابنُ أُبَيٍّ فأرسل إلى رسول الله ﷺ إنا لا نخرجُ فاصنع ما بدا لك.
فكبَّر رسول الله ﷺ وكبَّر المسلمون لتكبيره ثم سار إليهم في أصحابه فلما رأى بنو النضير رسول الله قاموا على حصونهم معهم النَبل والحجارة وحاصرهم رسول الله وقطع نخلهم فقالوا: نحن نخرج عن بلادك، فأجلاهم عن المدينة فمضى بعضهم إلى الشام وبعضهم إلى خيبر وقبض الرسول سلاحهم وأموالهم.
الاستعاذة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}
أي مَجَّدَ اللَّهَ ونزهه ما في السمـوات والأرض إما بلسان مَقالِه أو بلسانِ حالِه عن كل سوء وما لا يليق به سبحانه وتعالى فإذا نظرت إلى كل شيء دلتك خلقته على وحدانية الله تعالى وتنزيهه عن الأشباه.
{وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}
العَزِيزُ: أي القوي الذي لا يُغلب لأنه تعالى غالبٌ غيرُ مَغلوب
الحَكِيمُ: أي المُحْكِم لخلقِ الأشياء كما شاء.
{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الحَشْرِ}
{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ} وهم بنو النضير من اليهود أخرجهم{مِنْ دِيَارِهِمْ} أي منازلهم ودورهم التي كانت بناحيةِ المدينةِ المنورة وذلك على رأس ستة أشهر من وقعة بدر.
وأما قوله: {لِأَوَّلِ الحَشْرِ}
الحشرُ الجمعُ للتوجيهِ إلى ناحيةٍ ما فكان جلاؤُهم ذلكَ أولَ حشرهم إلى الشام وهم أولُ من أُخرجَ من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام
{مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا}
ما ظننتم أيها المؤمنون أن يخرج هؤلاء اليهودُ الذين أخرجهم اللهُ من مساكنِهم ومنازلِهم لَعِظَمِ أمرهم وقوتهم ووثاقةِ حُصونهم وكثرةِ عددِهم وعُدَّتِهم
{وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ}
ظن بنو النضير أن حصونَهم تمنَعُهم من أمر الله وبأسه وكان هؤلاء اليهود أهلَ سلاح كثيرٍ وحصونٍ منيعة ٍ فاعتقدوا في أنفسهم أنهم في عِزَّة ومَنَعَةٍ بسببها
{فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}
فأتاهم أمرُ الله وعذابُه وعقابُه من حيثُ لم يظنوا ولم يخطرْ ببالهم وذلك أن الله أمرَ نبيّه بقتالهم وإجلائهم
{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}
أي ألقى وأثبت في قلوبهم الخوفَ الشديد
{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ}
كان بنو النضير يخربون أي يهدمون بواطن بيوتهم وكان المسلمون يهدمون ظواهر بيوت بني النضير ما الذي دعا بني النضير إلى أن يَهدِموا بيوتَهم الذي دعا بني النضير إلى التخريب حاجتُهم إلى الخشب والحجارة ليسدوا بها أفواه الأزقة
وأن لا يتحسروا بعد جلائِهم على بقائها مساكنَ للمسلمين وأن ينقلوا معهم ما كان في أبنيتهم من جيد الخشب
هؤلاء اليهود ما أشد حرصَهم على الدنيا حبُ المال فيهم شئٌ غريب وأما المؤمنون فداعيهم إلى تخريب بيوت بني النضير
إزالةُ مُتَحَصَّنِ بني النَّضير وأن يتَّسعَ لهم مجالُ الحرب.
ومعنى تخريبِ بني النضير لبيوتهم بأيدي المؤمنين أنهم بنكثِ العهد كانوا السبب في قدوم المسلمين لحصارهم وهدمِ بيوتهم
{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}
أي اتعظوا وانظروا ما نزل بهم يا أصحاب العقول واعلموا أن الله ناصرُ رسوله على كل من عاداه
{وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا}
أي لولا أن الله قضى على هؤلاء اليهود من بني النضير الخروجَ من أوطانِهم وديارِهم لَعذبَّهم في الدنيا بالقتلِ والسَّبيِ كما فعل ببني قُريظة
{وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ}
لهم في الآخرة عذابُ النار مع ما حلّ بهم من الخزي والذُل في الدنيا بالجلاء عن أرضَهم ودُورِهم فعذاب الآخرة واقعٌ لا محالةَ لمن مات على الكفر.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ}
ذلك الذي لحِقَهم ونزل بهم سببُه أنهم عادَوُا اللهَ وخالفوا أمره وكذبوا رسوله
{وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ}
وهذا وعيد من الله عزَّ وجلَّ بالعذاب الشديد يوم القيامة لكل من لم يؤمن به وبرسوله
{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الفَاسِقِينَ}
يعني أيَّ شىءٍ قطعتم من لينةٍ أي من شجرِ النخلِ أو تركتموها قائمةً على أصولها فبإذن الله ولِيخزيَ الفاسقين أي قطعُها وتركُها بمشيئة الله لِيَغيظَ بذلك أعداءَه و لِيُذِلَّ اليهود.