شرح الأربعين النووية الحديث السادس عشر
قال الشيخ سمير القاضي حفظه الله
الحمد لله ربّ العالمين له النّعمة وله الفضل وله الثناء الحسن.
أسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه وأن يرزقنا النيات الحسنة كلامنا الآن إن شاء الله في الحديث السادس عشر من الأربعيين النووية.
قال المؤلف: الحديث السادس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني
الشرح: رجل قال للنبي عليه الصلاة والسلام أوصني هذه واقعة وقعت لأكثر من واحد من الصحابة أكثر من واحد قال للنبي عليه الصلاة والسلام فأوصاه قال له:”لا تغضب” والظاهر أن النبي عليه الصلاة والسلام أوصى هذا الإنسان بما يناسب حاله كأنه عرف أن من هؤلاء الذين سألوه أنهم كثيرو الغضب فأوصاهم بتركه.
قال المؤلف: قال لا تغضب
الشرح: قال لا تغضب معناه لا تغضب فيما يتعلق بحظوظ النفس قال لا تغضب فيما يدعو إليه الهوى وليس معناه لا تغضب بالمرة ولو كان الأمر يتعلق بحقوق الله تبارك وتعالى لأن الغضب لله عزّ وجلّ شىء محمود.
روى البخاري في الأدب المفرد عن بعض التابعين أنه قال لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متحزقين يعني منقبضين ما كان عندهم إنقباض في طباعهم ولا متماوتين يعني ما كانوا يظهرون الضعف ضعف الصوت والتعب ونحو ذلك حتى يظهروا أنهم منهمكون في العبادة أن عباداتهم كثيرة وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم ويتذكرون ما حصل منهم في أيام الجاهلية لكن كانوا إذا أُريد الواحد منهم على أمر دينه يعني إذا أُريد من واحد منهم المعصية إذا أُريد أحدهم على المعصية دارت حماليق عينيه صارت باطن جفون عينيه تدور كأنه مجنون يعني أنهم كانوا يغضبون لله تعالى في هذه الحال فالغضب لله عزّ وجلّ شىء ممدوح وليس مذمومًا.
إنما الذي نهى عنه نبي الله عليه الصلاة والسلام هو الغضب لحظ النفس وللهوى كما قلنا الظاهر أن هذا الذي سأله عليه الصلاةكان من حاله أنه كثير الغضب لحظ النفس فأرشده النبي عليه الصلاة والسلام إلى ترك ذلك حذرًا مما يترتب عليه لأن الإنسان إذا غضب لحظ نفسه جره هذا في العادة إلى ما هو غير ذلك من المعاصي إلى معاص أخرى كم من غضب جرى إلى سب وشتم بغير حق كم من غضب جرى إلى قتل بغير حق كم من غضب جرى إلى قطيعة رحم كم من غضب جرى إلى غير ذلك من الأمور الفاسدة بل ربما جرى الغضب صاحبه إلى أن يقع بالكفر بالله تبارك وتعالى كما وقع من حمار الجوف حمار الجوف رجل كان قبل البعثة النبوية هذا الرجل كان مسلمًا يقال حمار بن مالك ويقال حمار بن مويلع هذا الرجل كان له واد عظيم طويل طوله مسيرة يوم عرضه أربعة فراسخ وكان في هذا الوادي ما شئت من ثمار ونحو ذلك كان أخصب واد في جزيرة العرب وكان مسلمًا زعيمًا على قومه ثم يومًا خرج أولاده أربعة من البيت ليصطادوا نزلت عليهم صاعقة فقتلتهم فكفر كفرًا شنيعًا والعياذ بالله غضب فكفر كفرًا شنيعًا قال لا أعبده قتل أولادي لا أعبده يريد الله عزّ وجلّ ثم دعا قومه إلى الكفر فمن أطاعه أطاعه ومن عصاه قتله وكان لا يمر بواده أحد إلا دعاه إلى الكفر فإن أطاعه وإلا قتله ثم إن الله تبارك وتعالى أهلكه وسلط على واده نارًا أحرقته فصار أسود إلى يومنا هذا الوادي هذا أسود معروف في نواحي الجزيرة العربية هذا مثال عما يجر إليه الغضب.
أيضًا من أمثلة ذلك جبلة بن الأهيم كان أسلم في زمن سيدنا عمر وكان زعيمًا في قومه وكان فيه تيه وتكبر هذا الرجل يومًا داس في الطواف داس على طرف ردائه شخص فلطمه غضب هذا جبلة فلطمه على وجهه فشكى إلى عمر وكان هذا في خلافة سيدنا عمر فقال له: “تمكنه من طلمك كما لطمته” فأنف من ذلك قال: أنا يلطمني رجل من السوقة من عامة الناس ما رضي غضب من هذا الأمر حمله غضبه على أن ترك بلاد الإسلام وذهب إلى بلاد الروم وأرتد إلى النصرانية والعياذ بالله وتعالى.
فالغضب هو غليان دم القلب هذا هو الغضب غليان دم القلب بدفع المؤذي عنه خشية وقوعه أو طلبًا للإنتقام ممن حصل منه إليه أذى بعد وقوعه يعني غليان دم القلب خشي من وقوع الأذى لدفعه أو للإنتقام بعد وقوع الأذى وكثيرًا ما يكون هذا نزغة من الشيطان يعني إغراء وتحريضًا وإفسادًا من الشيطان حتى يوقع العبد فيما لا يرضي ربه إذا لم يكظمه العبد إذا لم يبلعه الإنسان خرج به عن الاعتدال ففعل ما يُذم من أمثلة ما ذكرناه كم من إنسان ظاهر زوجته بسبب الغضب كم من إنسان سب أباه والعياذ بالله تعالى بسبب الغضب كم من إنسان لعن وشتم بسبب الغضب نسأل الله تبارك وتعالى أن ينجينا من ذلك كم من إنسان أوقع نفسه في المهلكة الدنيوية أو الأُخروية بسبب الغضب الله تعالى يحفظنا.
ومنشأ هذا الشىء أيش أصل الغضب هذا الغضب المذموم كلامنا في الغضب المذموم أصله أن الإنسان يرى لنفسه حظًا يرى لنفسه منزلة فإذا قصده إنسان بما يظنه سوءًا أو نازعه شخص في أمر أو غرض أو لم يمتثل أمره نازعه في أمر هو يريده ويبتغيه عند ذلك هاجت عليه نار الغضب لماذا لأنه يرى لنفسه منزلة أنه أعلى من أن يُنازع أعلى من أن يُرد أمره أعلى من أن لا يُعطى مطلبه عند ذلك تسوء عليه نفسه وتغضب في هذه الحال إن لم يوقفها عند حدها وانتصر لنفسه ولم يقتصر على ما يأذن فيه الشرع أوقع نفسه فيما لا تحمد عاقبته أما من يغضب لانتهاك حرمة الله فلا يكون غضبه لأجل ذلك لا يغضب لنفسه لا يغضب لحظ نفسه لا يغضب لأنه يرى لنفسه منزلة فوق غيره إنما يغضب إنتصارًا لشرع الله تبارك وتعالى فيقع غضبه على الوجه السليم إن شاء الله عزّ وجلّ. وعلاج الغضب الذميم حتى يخلص منه الإنسان وتنكسر ثورته ويضعف ولا يشتد أصلا وينقاد للعقل والشرع يكون سهلا إذا عرف الإنسان أسبابه إذا عرف أسباب الغضب قالوا أسباب الغضب الزهو الزهو معناه الكبر والتيه والتعالي على الغير والعجب والمزاح والُهزل والتعيير والممارة يعني أن يجادل ليس طلبًا لإحقاق الحق أو إبطال الباطل إنما ليكسر غيره والغدر وشدة الحرص على الزيادة من المال والجاه إذا عُرف ذلك يسعى الإنسان إذا كانت فيه صفة من هذه الصفات أن يميتها هذه الصفة أن يُزيلها أن يطهر نفسه منها وذلك بالإتيان بما هو ضدها بمضادها.
مثلا يُزال الزَّهو بالتواضع يسعى في التصرف بالتواضع يُزال العجب بمعرفة النفس بأن يعرف نفسه بأن يعرف قصوره بأن يعرف ضعفه يتفكر الإنسان بهذا بأن يعرف أنه عاجز إن لم يعنه الله تبارك وتعالى يزال الفخر بأن يتفكر بأن السيد والعبد كلاهما من جنس واحد وكلاهما مردهما إلى التراب وكلاهما سيُسألان ويحاسبان ويزال الهزل حب الهزل الذي يولد الغضب أحيانًا يُزال الهزل بالجد في طلب الفضائل والأخلاق الحسنة بالجد في طلب العلوم الدينية يُزال الهُزىء الاستخفاف بالغير بالتكرم والترفع عن إيذاء الناس وبصيانة نفسه عن أسباب الاستهزاء بها لا هو يستهزأ بغيره ولا يفتح لغيره بابًا ليستهزأ به فيصون نفسه أيضًا عن أسباب الاستهزاء بها يُزال التعيير يعني أن يتكلم مع الغير بالكلام الذي فيه نسبة العيوب إليه يُزال التعيير بالحذر عن القول القبيح وبالترفع عن القول المر تزال الممارة والمضادة بتحسين النية يُحسّن الإنسان نيته وحتى لا تكون نيته المجادلة لأجل الترفع والفعل لأجل الترفع إنما يكون قصده إحقاق الحق وإبطال الباطل يُزال حب الغدر بتذكر الموت وتذكر الفضيحة يوم القيامة أنها تكون عظيمة على رؤوس الأشهاب يُزال شدة الحرص على مزايا العيش على المال والجاه ونحو ذلك بالقناعة بقدر الضرورة طلبًا لعز الإستغناء عن الغير لأنك إذ ا قنعت بقدر ما تحتاج إليه تكون عزيزًا لا تحتاج الكثير فتكون عزيزًا لا تنكسر لغيرك طلبًا لما بيده من فضل مال أو فضل دنيا.
وهكذا كل أمر ينظر الإنسان ما هو السبب الذي يحركه على الغضب فيسعى إلى التحلي بعكسه ويثابر على ذلك ويدرب نفسه عليه ويستمر على المواظبة على ضد هذه الصفة مدة طويله مدة مديدة يحمل نفسه على خلاف ذلك حتى تصير هذه الصفة الحسنة بالعادة مؤلفة هينة سهلة له عند ذلك يزول السبب الذي يحركه على الغضب وإذا زال السبب الذي يحركه على الغضب زال الغضب هذا في كيفية إزالته.
وأما إذا وقع إذا حصل أن وجد الإنسان في نفسه غضبًا لكن هذا الغضب ليس لله تبارك وتعالى إذا تحرك قلبه فغضب وغضبه ليس انتصارًا لله ليس إنتصارًا للدين ليس غضبًا لحقوق الله تبارك وتعالى إنما غضبًا لحظ النفس ونحو وذلك.
علاجه يكون باستشعار أن ليس فاعل على الحقيقة إلا الله هذا الذي أنا أغضب منه هذا ليس الخالق الخالق هو الله تبارك وتعالى هو الذي أوصل إليّ كل ما وصل إليّ سبحانه وتعالى الأسباب لا تخلق شيئًا والعبد لا يخلق شيئًا إنما ما حصل هو بخلق الله يستحضر هذا في قلبه هذا يوقفه ويتمهل يقول أنا لن أقوم بفعل الان في حال غضبي لإتمهل ثم بعد ذلك أنظر ماذا أفعل يتمهل فلا يعجل في انفاذ ما يمليه عليه غضبه كما قال ربنا عزّ وجلّ: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} معناه أي ولا ينفذون غضبهم.
وكما قال: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس} الكاظمين الغيظ الذين يبلعون غضبهم جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:”من كظم كيظًا وهو يستطيع أن ينفذه هو قادر أن يفعل ما تميل إليه نفسه عند الغضب لكنه بلع غضبه وكتمه دُعي يوم القيامة على رؤوس الأشهاد على رؤوس الناس أمام الخلق ذكر فضله وذكر حسن فعله ثم خير من أي الحور ما شاء ثم يقال له اختر من الحور العين ما تشاء وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه الإنسان وهذا هو الإنسان القوي الشديد كما جاء في الحديث:”ليس الشديد بالصرعة ليس الشديد الذي يغلب غيره ويصرعه ولكن الشديد الذي يغلب نفسه عند الغضب” أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وأيضًا مما يعين على ذلك أن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم جاء في الحديث: “أنه إذا غضب الإنسان أن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم فإن هذا يعينه على كظم غضبه”.
وأن يتوضأ وذلك أن الغضب كجمرة من نار في القلب والنار إنما تطفىء بالماء فإذا غضب الإنسان يتوضأ مرة حصل مع إنسان ما أغضبه فذهب فتوضأ ثم قال أخبرني فلان عن فلان ساق السند عن جده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:”إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خُلق من النّار وإنما تطفىء النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ”. وجاء أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا وإذا غضب وكان واقفًا فليقعد إذا كان قاعدًا فليضجع معناه ليعمل عكس ما يوجهه إليه غضبه الإنسان إذا كان قاعدًا فغضب تميل نفسه للقيام يعمل عكس ما تميل إليه نفسه عند الغضب إذا كان قاعدًا أيضًا تميل للقيام يعمل بالعكس يضجع فإن هذا يعينه على كبح جماح غضبه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا إن الغضب جمرة في قلب ابن ءادم أما ترون إلى انتفاخ أوداجه وإحمرار عينيه فمن أحس من ذلك شيئًا فليلزق بالأرض” يعني لا يقوم لا يتحرك على وفق ما يقوده إليه غضبه ثم لا يتكلم فليسكت لا يتكلم بما تميل إليه نفسه كما جاء في حديث آخر للنبي عليه الصلاة والسلام: “فليسكت فليسكت فليسكت” كرر ذلك ثلاث مرات صلى الله عليه وسلم.
وليذكر نفسه بغضب الله تعالى وأن الله تعالى قادر عليه وليتذكر أنه هو كم خالف قبل ذلك وكم عصى ربه قبل ذلك وكم فعل من الأمور السيئة فإذا فعل غيره شيئًا من ذلك فهو قد فعل ما يشبهه تجُاه ربّه سبحانه وتعالى فإن هذا كله يعينه على أن يبلع غضبه ويكظمه وأن لا يؤدي به إلى أن يعصي الله أو يؤذي غيره أو يفعل ما يضره في آخرته ثم بدل أن يستمر في التفكير في هذا الأمر الذي أغضبه ليشغل نفسه بشىء نافع من ذكر أو صلاة أو تلاوة أو علم شرعي أو نحو ذلك فإنه يصرف قلبه عن هذا الأمر ويكسر ثورة نفسه وليقصر غضبه على دفع الأذى في الدين ليكن غضبه مقصورًا على دفع الأذى في الدين له ولغيره وعلى الانتصار لدين الله تبارك وتعالى كما قال ربّنا عزّ وجلّ:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} وهذه كانت حال النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان لا ينتقم لنفسه أبدًا ما ضرب يومًا النبي عليه الصلاة والسلام في غير الجهاد في سبيل الله أحدًا لا عبدًا ولا امرأة ولا نحو ذلك بل كان يصبر على الأذى الشديد يقول أنس بن مالك رضي الله عنه كنت مع النبي عليه الصلاة والسلام يومًا وكان على النبي عليه الصلاة والسلام كساء جانبه حاشيته قوية شديدة إذا شدت على البدن تؤثر فيه طرف الرداء جانب الرداء الحاشية فجاء من وراءه أعرابي فيه جلافة أمسك هذا الثوب الذي على النبي عليه الصلاة وشده حتى أثر هذا الثوب في جلد النبي عليه الصلاة والسلام في جسد النبي عليه الصلاة والسلام وقال يا محمد أعطني من مال الله تعالى فالتفت إليه النبي عليه الصلاة والسلام وضحك يعني ابتسم ثم قال نعم ولم ينتقم منه عليه الصلاة والسلام ولا واجهه بكلمة ولا قال له لم فعلت وضايقتني وتمهل ونحو ذلك كذلك أمر له بعطاء قال: “نعم” وأمر له بعطاء عليه الصلاة والسلام.
وروى ابن حبان وغيره أن رجلا جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فاستقبله فورًا قال له يا محمد جدك عبد المطلب كان خيرًا منك كان يطعم قومه الكبد والسنان وأن تنحرهم أنت تقتلهم أي في الجهاد فلم يغضب عليه الصلاة والسلام وإنما كلمه بما شاء الله تعالى أن يكلمه فأسلم الرجل بعد ذلك بمدة رجع الرجل وقد أسلم.
وكذلك عامل رسول الله صلى الله عليه أحد أحبار اليهود أحد علماء اليهود وكان اسمه زيد بن سعيه أو زيد بن سعنه هذا الرجل زيد كان قرأ في الكتب القديمة أوصاف نبي أخر الزمان وتبين له أن هذه الأوصاف مجتمعة في رسول الله عليه الصلاة والسلام وكان بقي من ذلك خَصلتان أن جهله لا يسبق حلمه حلمه يسبق جهله وأن شدة الجهل عليه لا تزيده إلا حلمًا هذا الرجل النبي عليه الصلاة والسلام احتاج إلى شعير ونحوه حتى يطعم أناسًا فقراء أسلموا من جديد فعامل هذا الرجل زيدًا بمعاملة يقال لها السلم اشترى منه شعيرًا بمعاملة يقال لها السلم اشترى من هذا الرجل شيئًا بالدين ثم قبل أن يحين وقت رد الدين بثلاثة أيام جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام يطالبه بدينه وكلم النبي عليه الصلاة والسلام بكلمة تهز المشاعر قال يا محمد إنكم بنو عبد المطلب قوم مطل أنتم قوم تُماطلون في رد الدين تكونون قادرين على رده ثم لا تردونه في وقته أنت وقومك على هذا وكان في المجلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمر بن الخطاب غضب غضبًا شديدًا صار من شدة غضبه هذا اللحم في جنبه يرتجف من شدة غضبه يرتجف كما يرتجف المغزل من شدة غضبه ثم قال يا عدو الله تواجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام والله لولا ما أخاف من كونه لولا أنني أخاف أن أتصرف بحضرته بغير إذنه لسبقني رأسك يعني لكان رأسك زال عن بدنك قبل أن أقول لك هذا الكلام النبي عليه الصلاة والسلام قال لعمر:”لا تقل هذا كلانا أحوج منك إلى غير هذا تذكرني تقول لي تذكرني بحسن القضاء أن أقضيه دينه على الوجه الحسن ولا أقابل فعله بخلاف ما تقضيه محاسن الأخلاق وتذكره بحسن التقاضي” ثم قال لعمر خذه إلى مكان كذا فأعطه دينه وأعطه زيادة لأجل أنك كلمته بهذا الكلام وأخفته لما ذهب به عمر قال له زيد تعرفني قال لا قال أنا فلان قال الحبر كان مشهورًا بين اليهود بهذا اللقب معروف أنه يعني أنت مثلك كيف يكلم النبي عليه الصلاة والسلام بهذه الطريقة هذه ليست أخلاقك ليست طريقتك فقال إني رأيت في وجهه كل الصفات التي ذُكرت عن نبي آخر الزمان وبقيت هاتان الصفتان فالآن تحققتهما إني رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا فقال زيد يا عمر أُشهدك أن شطر مالي صدقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال أو على بعضهم قال لأنك لا تسعهم ثم إنهما رجعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونطق زيد أمام النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادتين ولزم رسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك حتى توفي بغزوة تبوك مقبلا غير مدبر رضي الله عنه ورحمه.
وعلى نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترك الغضب وتركه مضى سلف هذه الأمة من الأكابر يومًا أقزع رجل في شتم علي زين العابدين شتمه شتمًا شنيعًا زين العابدين هو علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أفحش في سبه فتغاضى عنه علي ولم يلتفت إليه هذا الذي يسب اغتاظ هو يسب وزن العابدين لا يلتفت إليه علي زين العابدين لا يلتفت إليه بعد ذلك قال له أياك أعني أنت الذي أسب ما تعرف أنا أسبك أنت إياك أعني قال زين العابدين وعنك أغضي أنا أعرف لكنني أغضي عنك فلم يغضب ولم تتحرك نفسه بالغضب من ذلك.
ويومًا كان أبو السوار العدوي يسبه رجل هو يمشي وهذا الرجل يتبعه بالسب والشتم وهو ساكت حتى بلغ إلى بيته باب بيته وأراد أن يدخل فالتفت إلى الرجل وقال له حسبك إن شئت يكفي الآن أريد أن أدخل هذا كل ما حصل منه
وقبل للأحنف بن قيس وهذا كان من أكارم الصحابة من أصحاب الجاه من قومه ومن أهل الكرم وكان مشهورًا بالحلم والصبر قيل له ممن تعلمت الحلم قال من قيس بن عامر كنت أذهب إليه فأقعد في مجلسه حتى أتعلم الحلم والصبر منه كما يذهب الإنسان إلى المعلم حتى يتعلم العلم منه فقالوا له ماذا رأيت من صبره قال كنا يومًا عنده وهو جالس في داره جاءته امرأة خادم له جاءته بالسفوة السفوة قطعة حديد لها أطراف معكوفة شوى بها اللحم جاءته بسفوة عليه شواء فلما كانت تمشي سقط من يدها هذا السفوة فجاء على ولد له صغير فمات بسبب ذلك فلما رأت الجارية دُهشت أصابتها الدهشة تجمدت ما عرفت ماذا تقول فلما رأى منها ذلك قال لها اذهبي أنت حرة لوجه الله تعالى ما لامها ما غضب منها إنما أطلقها حرة لوجه الله لما رأى من ارتياعها وخوفها قال لا روعة عليك أنت حرة لوجه الله.
وقال الأحنف أيضًا كنا يومًا عنده وهو قاعد محتم برداء يلفه الرداء الذي عليه يلفه من خلف ظهره ناصب لرجليه يلفه على رجليه فيصير كأنه مستند إلى شىء وهو ليس مستندًا قاعد على هذه الطريقة وهو محتب بفناء داره يكلم إنسانًا بينما هو على هذا إذ دخلوا عليه برجل مربوط ورجلا قتيل فقالوا له هذا ابن أخيك قتل ابنك ابن أخيك قتل ولدك ما التفت إليهم حتى أكمل كلامه الذي كان يكلمه ثم ألتفت إلى ابن أخيه فقال فكوا وثاقه حلوه لا تبقوه مربوطًا ثم قال له لامه على فعله ماذا فعلت عصيت ربك وقطعت رحمك قال أطلقوه اتركوه ثم دفع هو من ماله لأم ولده مائة ناقة قدر الدية وقال أعطوها أياها فإنها غريبة ليست من حينا ليست من عشيرتنا حتى تسكنوا حزنها على ولدها.
وكان عون بن عبد الله رضي الله عنه إذا عصاه غلامه إذا عصاه الخادم الذي عنده العبد الذي يملكه ويخدمه يقول ما أشبهك بمولاك أنت تشبهني انا أعصي مولاي وأنت تعصيني حالك مثل حالي هذا الذي يحصل منه.
ومما ذكره بن شداد رحمه الله القاضي بن شداد عالم معروف مشهور من علماء الشافعية بعد موت السلطان صلاح الدين الأيوبي ألف في سيرته تأليفًا وكان صحبه مدة طويلة من جملة ما ذكره أن صلاح الدين رحمه الله تعالى كان في مجلس يومًا فرمى واحد من عبيده من ممالكيه رمى واحد منهم عبدًا آخر بمداسه بنعله كادت النعل تصيب صلاح الدين فأظهر كأنه ما انتبه إلى ذلك وتغافل عنه.
مرة قال لأحد ممالكيه ناولني الدواء كان قاعدًا يريد أن يكتب شيئًا والدواء خلفه لا يستطيع ينالها إلا إذا تمغط قال لمملوكه لعبده ناولني الدواء قال له عبده هي خلفك مد يدك تنالها فتمغط حتى نالها ما حصل منه أدنى غضب تجاهه.
كان يومًا مريضًا مرضًا شديدًا فقال اسقوني ماء ما أتوه بالماء أسقوني ماء ما اتوه بالماء بعد ذلك تريدونا أن أموت من العطش تريدونا قتلي من العطش عند ذلك أتوه بالماء هذا وهو الأسد الغالب قاهر الصليبين السلطان الذي بيده السلطة القادر على الانتقام مع ذلك لم تتحرك نفسه ولم يغضب إنما بلع غضبه وكظم غيظه ولأجل هذا تمادوا معه لأنهم كانوا يعرفون خلقه كانوا يعرفون أن خلقه حسن عال لا يحمله سوء فعلهم على أن يقابلهم بالغضب والانتقام كما قال الشاعر
ليست الأحلام في حين الرضى إنما الأحلام في حين الغضب
وليس الغضب عذرًا الغضب ليس عذرًا يمنع المعصية إذا وقع الإنسان فيها طالما الإنسان في وعيه إذا وقع في معصية الله تكتب عليه المعصية وتلحقه تبعات فعله ولو كان غاضبًا الغضب ليس عذرًا يمنع عن الإنسان أن تلحقه تبعات فعله ويمنع عن الإنسان أن تكتب عليه معصيته.
روى الإمام أحمد أن رجلا من الصحابة كان كبر في السن صار ضيق الصدر سريعًا في الغضب أزعجته زوجته فبسبب إنزعاجه وغضبه ظاهر منها قال لها أنت عليّ كظهر أمي النبي عليه الصلاة والسلام لما علم بذلك ما قال كان غاضبًا هذا لا يقع منه ما قال كان غاضبًا هذا لا يكتب عليه إنما أجرى في حقه حكم الله تبارك وتعالى.
وجاءه يومًا رجل إلى عبد الله بن عباس فقال إني غضبت فطلقت زوجتي ثلاثًا فأجابه عبد الله بن عباس عبد الله بن عباس لا يستطيع أن يحل لك ما حرم الله عليك حرمت عليك امرأتك أليس طلقتها ثلاثًا ولو كنت غاضبًا غضبك لا يمنع وقوع الطلاق بالثلاث في حقها لذلك على الواحد منّا أن ينظر في نفسه وأن يراعي أمر أخرته إذا حصل ما يغضبه حتى لا يقع فيما لا يحبه الله تبارك وتعالى وليتذكر الإنسان منّا أنه كم حصل منه ما لا يرضي الله تبارك وتعالى وكم حصل منه ما يزعج غيره فكما أنه يحب من غيره إذا حصل منه هو ما يضايق ويزعج أن يكون حليمًا تُجاهه وأن لا يغضب عليه فليتحلى هو أيضًا بعدم الغضب عندما يصدر من غيره ما يزعجه وليقصر غضبه على أن يكون لوجه الله تبارك وتعالى طلبًا لرضى الله عزّ وجلّ وفي هذا السلامة.
قال المؤلف: فردد مرارا قال لا تغضب
الشرح: فردد مرًارًا النبي عليه الصلاة والسلام لما كلم ذلك الإنسان ثلاث مرات مرًارًا في بعض الروايات بين أنه ردد ثلاث مرات لا تغضب لا تغضب لا تغضب.
قال المؤلف: رواه البخاري
الشرح: نعم رواه البخاري في صحيحه ورواه الترمذي أيضًا والله تبارك وتعالى أعلم.