-الإرادة : الآنَ نتكلَّمُ إنْ شاء الله على صفة الإرادة لله عزّ وجلّ.
-قال المؤلف : اعلم أنَّ الإرادة وهي المشيئةُ واجبةٌ لله تعالى : هذه صفةٌ من الصفات الواجبة لله تعالى. والمقصودُ بالإرادة هنا المشيئة، ليس المقصود بالإرادة هنا المحبة، إنما المرادُ هنا صفةُ المشيئة.
-قال المؤلف : وهي صفةٌ أزليةٌ أبدية يُخَصِّصُ اللهُ بها الجائزَ العقلي بالوجود بدل العدم وبصفةٍ دون أخرى وبوقتٍ دون ءاخر : مثلا اللوحُ يجوزُ أنْ يكونَ أسود ويجوزُ أنْ يكونَ أبيض ويجوزُ أنْ يكونَ أخضر. يجوزُ أنْ يكونَ كبيرًا ويجوزُ أنْ يكونَ صغيرًا. يجوزُ أنْ يُعَلَّقَ في مكانه الساعةَ الفلانية ويجوزُ أنْ يُعَلَّقَ في ساعة أخرى. مَنِ الذي يُخَصِّصُه بلون دون لون، بحجم دون حجم، بمكان دون مكان، بوقت دون وقت ؟ هو الله تبارك وتعالى، يُخَصِّصُهُ بذلك بصفة المشيئة. إذن المشيئة صفة يُخَصِّصُ اللهُ تعالى بها الممكنَ العقليّ، والممكن العقلي كما سبق وشرحنا ما جاز في العقل وجودُه تارةً وعدمُهُ تارةً أخرى، يُخَصِّصُهُ ببعض ما يجوزُ عليه من الصفات.
-قال المؤلف : وبُرهانُ وجوبِ الإرادة لله أنه لو لم يكنْ مُريدًا لم يوجَدْ شىءٌ من هذا العالم : لأنَّ العالم يحتاجُ في وجوده إلى مَنْ يُخَصِّصُهُ بالوجود بدل العدم. ولو لم يكنِ اللهُ مريدًا لـَمَا كان مُخَصِّصًا للعالم بالوجود بدل العدم. إذن لـَمَا وُجِدَ العالم.
-قال المؤلف : لأنَّ العالم ممكنُ الوجود، فوجودُهُ ليس واجبًا لذاته عقلا، والعالمُ موجودٌ فَعَلِمْنَا أنه ما وُجِدَ إلا بتخصيصِ مخصِّصٍ لوجوده وترجيحه له على عدمه : وهذا الذي أوجَدَه بعد عدم ورجَّحَ وجودَ العالم على عدمه هو الله. إذن لا بد أنَّ الله متصف بصفة يرجِّحُ بها الوجودَ على العدم أو عدمَ الشىء بعد كونه موجودًا على استمرار وجوده.
-قال المؤلف : فَثَبَتَ أنَّ الله مريدٌ شاءٍ : بلا شك.
-قال المؤلف : ثم الإرادةُ بمعنى المشيئة عند أهل الحّق شاملةٌ لأعمال العباد جميعها الخيرِ منها والشر : كلُّ أعمالِ العباد واقعةٌ بمشيئة الله، بل كلُّ شىءٍ وُجِدَ ما وُجِدَ إلا بمشيئة الله.
-قال المؤلف: فكلُّ ما دَخَلَ في الوجود من أعمال الشر والخير ومن كفرٍ أو معاصٍ أو طاعة فبمشيئة الله وَقَعَ وحَصَلَ : ليس فقط الخير هو الذي يحصُلُ بمشيئة الله بل الخيرُ والشر، الطاعةُ والمعصية، القبيحُ والحَسَن، كلُّ ذلك يحصُلُ بمشيئة الله تعالى.
-قال المؤلف : وهذا كمالٌ في حقّ الله تعالى : وهذا صفةُ كمال في حقّ الله لأنه لو كان يحصُلُ شىءٌ في هذا العالم غَصْبًا عن مشيئة الله، بغير مشيئة الله، اللهُ ما شاء أنْ يحصُلَ فحَصَل، أو اللهُ شاء أنْ يحصُل فلم يحصُل لكان اللهُ عاجزًا، تعالى اللهُ عن ذلك. فهذا أي أنَّ كلَّ شىء حصولُهُ بمشيئة الله صفةُ كمالٍ لله عزّ وجلّ.
-قال المؤلف : لأنَّ شُمُولَ القدرة والمشيئة لائقٌ بجلال الله : لأنه لا بد أنْ تكونَ قدرةُ الله شاملة وأنْ تكونَ مشيئةُ الله شاملة، يعني لا بد أنَّ كلَّ يحصُل يحصُل بمشيئة الله ولا بد أنَّ كلَّ ما يحصُلُ في هذا العالم حصولُهُ بقدرة الله تبارك وتعالى، وإلا لو كان شىءٌ يوجَدُ بغير تقدير الله بغير قدرة الله، لو كان شىءٌ يوجَد بخلق غيرِ الله لكان لله شريك وهذا نَقص في حقه تعالى، لا إله إلا الله، لا أحدَ يخلُقُ إلا الله. فإذن لا بد أنَّ كلَّ شىء يحصُل حصولُهُ بمشيئة الله، وكلَّ ما يحدُث حدوثُهُ بقدرة الله تبارك وتعالى. لا بد أنَّ مشيئةَ اللهِ شاملة وأنَّ قدرة الله شاملة.
-قال المؤلف : لأنه لو كان يقعُ في مِلْكِهِ ما لا يشاء لكان ذلك دليلَ العجز والعجزُ مستحيل على الله : نعم.
-قال المؤلف : والمشيئةُ تابعةٌ للعلم : تابعةٌ للعلم معناه ما عَلِمَ الله أنه يحصُل شاء أنْ يحصُل، وما عَلِمَ الله أنه لا يحصُل لم يشأ أنْ يحصُل، هذا معناه. ليس معناه أنَّ المشيئة صفة حادثة حدثت بعد اتصاف الله بالعلم، لا، إنما المشيئة تابعةٌ للعلم أي ما عَلِمَ الله كونَه شاء كونَه وما عَلِمَ الله أنه لا يكون لم يشأ أنْ يكون، هذا معناه.
-قال المؤلف : أي أنه ما عَلِمَ حدوثَه فقد شاء حدوثَه، وما عَلِمَ أنه لا يكونُ لم يشأ أنْ يكونَ : هذا معناه.
-قال المؤلف : وليستِ المشيئةُ تابعةً للأمر : لا يجوزُ أنْ يعتقِدَ الإنسان أنَّ المشيئة معناها الأمر أو أنَّ المشيئة تابعةٌ للأمر، يعني لا يجوزُ أنْ يعتقد أنَّ ما أمر الله به شاء أنْ يحصُل. الله أمر الكفار بالإيمان ولم يشأ أنْ يؤمنوا. مثالٌ واضح، اللهُ أمَرَ إبراهيمَ عليه السلام أنْ يذبَحَ ولدَه لكنه لم يشأ أنْ يذبَحَ ولدَه فلم يذبحْ إبراهيمُ ولدَه. فليس كلُّ ما أمرَ الله به شاء حصولَه، لا. كلُّ ما عَلِمَ اللهُ أنه يحصُل شاء حصولَه.
-قال المؤلف : بدليل أنَّ الله تعالى أمَرَ إبراهيمَ بذبح ولده إسماعيلَ ولم يشأ له ذلك.
-قال المؤلف : فإنْ قيل " كيف يأمُرُ بما لم يشأ وقوعَه " ؟ إذا قال إنسان " يأمُرُ اللهُ بما لم يشأ وقوعَه ؟
-قال المؤلف : فالجوابُ أنه قد يأمُرُ بما لم يشأ : لا مانِعَ من ذلك.
-قال المؤلف : كما أنه عَلِمَ بوقوع شىء من العبد ونهاه عن فعله : كما أنه عَلِمَ أنَّ هناك أمورًا يفعلُها العباد ونهاه الله عن فعلها. عَلِمَ أنَّ هناك أمورًا لا يفعلُونَها وأمرهم بفعلها. كذلك عَلِمَ أنَّ هناك أمورًا يفعلونَها ونهاهم عن فعلها، وعَلِمَ أنَّ هناك أمورًا يفعلونَها فشاء أنْ يفعلوها مع أنه نهاهم عن فعلها. كما أنه عَلِمَ ذلك شاء ذلك، لا مانع. وأحيانًا الإنسان قد يأمُرُ بما لا يريدُ حصولَه، من المخلوق يحصُل. أنا إذا أردتُ أنْ أُظْهِرَ للناس أنَّ فلانًا ولدي مثلا لا يُطيعُني، آمُرُه أمام الناس أنْ يفعل شيئًا وأنا لا أريدُهُ أنْ يفعَلَه، لأنني أريد أنْ أُظْهِرَ للناس أنه لا يُطيعُني. فأكونُ قد أمرتُ بما لم أشأ حصولَه. ولا يقالُ عن هذا سَفَه ولا يقال قِلَّةُ حكمة. الله تعالى ما عَلِمَ حصولَه شاء حصولَه، وليس كلُّ ما أمر به شاء حصولَه، سبحانه.
-القدرة : الآن ننتقِلُ إلى الكلام على صفة أخرى وهي صفةُ القدرة لله.
-قال المؤلف : يجبُ لله تعالى القدرةُ على كلِّ شىء. والمرادُ بالشىء هنا الجائزُ العقلي : كلُّ ممكنٍ من الممكنات، كلُّ جائز عقليّ الله تعالى قادرٌ عليه، لا يُعْجِزُهُ شىءٌ سبحانه { وهو على كلِّ شىء قدير }.
-قال المؤلف : فخرج بذلك المستحيلُ العقلي لأنه غيرُ قابل للوجود : أمَّا المستحيلُ العقليّ فلا تتعلقُ القدرةُ به أصلا، لأنَّ هو المستحيل العقلي من حيث هو لا يقبَلُ الوجود مثلُ الشريك لله. لا يقال " الله قادرٌ على أنْ يجعلَ لنفسه شريكًا " ولا يقال " الله عاجزٌ على أنْ يجعلَ لنفسه شريكًا " لأنَّ فيه نِسْبَةَ العجز إلى الله. إنما يقال " قدرةُ الله لا تتعلقُ بهذا لأنَّ وجودَ الشريك لله مستحيلٌ عقلا. أصلا ما معنى القدرة ؟ " القدرة صفةٌ اللهُ تبارك وتعالى يُرَجِّحُ بها وجودَ الشىء على عدمه " الشىءُ الأمرُ الذي يقبَلُ الوجودَ والعدم، الله تعالى يُرَجِّحُ وجودَه على عدمه بهذه الصفة، أو يُرَجِّحُ عدمَه بعد أنْ كان موجودًا على استمرار وجوده بهذه الصفة. فإذن يُرَجِّحُ أحدَ الطرفين الجائزين على الممكن بهذه الصفة، هذه هي القدرةُ، فلا تتعلقُ بالمستحيل لأنَّ المستحيل العقلي لا يجوزُ عليه الوجودُ والعدم كلاهما. ولا تتعلقُ بالواجب العقلي لأنَّ الواجب العقلي أيضًا لا يجوزُ عليه الوجودُ والعدمُ كِلاهما. الواجبُ العقليّ موجودٌ أزلا وأبدًا، لا يجوزُ عليه عدم في العقل، في حكم العقل. والمستحيلُ العقليّ لا يجوزُ عليه وجود في حكم العقل، فلا يدخُلُ الواجبُ ولا المستحيلُ تحت القدرة، لا تتعلقُ القدرةُ بهما. لا نقول " الله قادرٌ على إيجاد شريك له" ولا نقول "الله عاجزٌ عن إيجاد شريك له " إنما نقولُ " قدرةُ الله لا تتعلقُ بالمستحيل العقليّ كما لا نقولُ عن الحجر بصير ولا أعمى لأنَّ البَصَرَ والعَمَى إنما يجوزان على مَنْ كان حيًّا والحجرُ ليس حيًّا فلا يقالُ فيه بصير ولا أعمى، يقالُ البصرُ والعمى لا يتعلَّقان به. وكذلك القدرةُ لا تتعلقُ بالمستحيل العقلي ولا بالواجب العقلي.
-قال المؤلف : فلم يَصْلُحْ أنْ يكونَ مَحَلًّا لتعلُّقِ القدرة : فلا تتعلقُ القدرةُ به كما شرحنا.
-قال المؤلف : وخالفَ في ذلك ابنُ حَزْمٍ : وخالف في هذا ابنُ حزم. ابنُ حزم كان تلقَّى علمًا من بعض الناس لكنْ ما كان عنده فهم في كلِّ الأمور، ولا تلقَّى كلَّ الأمور على وجهها. فكان عقلُهُ فيه ضَعف لذلك كان يُطيلُ لسانَه في الأئمة الأربعة ويجرَحُهُم ويتكلَّمُ عنهم بما لا يجوزَ ولا يليق. وأيضًا تكلَّمَ في هذه المسألة بما لا يجوز وبما يخالِفُ الدينَ ويُناقِضُهُ.
-قال المؤلف : فقال " إنَّ الله عزّ وجلّ قادرٌ أنْ يتخذَ ولدًا، إذْ لو لم يقدِر عليه لكان عاجزًا " : هكذا قال.
-قال المؤلف : وهذا الذي قالَه غيرُ لازمٍ : ليس صحيحًا، لا يقال. هو كيف فَكَّر ؟ قال " الله تعالى يَقْدِرُ أنْ يتخِذَ ولدًا، ليه ؟ قال لأنه إذا قلنا لا يقدِر معناه يكونُ عاجزًا. هذا الكلامُ ما معناه ؟ اتخاذُ الولد نقص، كأنه يقول " الله قادرٌ أنْ يجعَلَ نفسَه ناقصًا " ما هذا الكلام ؟ غيرُ صحيحٍ، الطريقة التي فَكَّرَ بها غيرُ صحيحة. لا يقال عن هذا الأمر إنَّ الله عاجزٌ عنه كما لا يقال قادرٌ عليه، لأنَّ القدرة أصلا لا تعلُّقَ لها بهذا الأمر، لأنَّ وجودَ الولد لله مستحيل عقليّ والقدرةُ لا تتعلقُ بالمستحيل العقلي. لكن اللهُ غَيَّبَ عن ذِهْنِه هذا الأمر، ما فَتَحَ اللهُ قلبَه للفهم فَضَلَّ والعياذ بالله.
-قال المؤلف : لأنَّ اتخاذَ الولدِ محالٌ على الله، والمحالُ العقلي لا يدخلُ تحت القدرة : لا تتعلقُ به القدرة، لا تعلُّقَ للقدرة به.
-قال المؤلف : وعدمُ تعلقِ القدرة بالشىء تارةً : يعني الحَجَر هل يكونُ عالـِمًا بعلم الدين ؟ لا، لا نقولُ " الحجر عالـِمًا بعلم الدين ". هل نقولُ جاهل بعلم الدين ؟ لا نقولُ جاهل أيضًا لأنَّ العلم والجهل يتعلَّقان بالحيّ، والحجرُ ما فيه حياة. هذا للتقريب. كذلك المستحيلُ العقليّ لا تتعلقُ به القدرة فلا يَلْزَمُ ما قالَه. الذي قالَه خطِر خبيث لأنه يقول إنَّ الله قادر أنْ يجعلَ نفسَه ناقصًا. أعوذُ بالله، قادر أنْ يُغَيِّر ذاتَه !!! المتغيِّر مخلوق.
-قال المؤلف : يكونُ لِقُصُورها عنه : أحيانًا. هذا في المخلوق، لا تتعلقُ القدرة بأمر لأنها قاصرةٌ عاجزة عنه. هذا فينا يكون، أنا لا أستطيعُ أنْ أرفَعَ الحجرَ الكبير، أنا عاجزٌ عن ذلك، لا أستطيع أنْ أطير، أنا عاجز عن ذلك، هذا يكونُ للعجز، هذا يكونُ في المخلوق أنَّ القدرة لا تتعلقُ بالشىء أحيانًا لأنها عاجزةٌ عن ذلك، قاصِرَةٌ عن ذلك.
-قال المؤلف : وذلك في المخلوق، وتارةً يكونُ لعدم قبول ذلك الشىءِ الدخولَ في الوجود أي حدوثَ الوجود لكونِهِ مستحيلا عقليًّا : أحيانًا يكونُ ذلك لأنَّ الشىء لا يقبلُ الوجود، لأنَّ الأمرَ لا يقبَلُ الوجود، لأنه مستحيل عقلي والقدرةُ لا تتعلقُ بالمستحيل العقلي. عدمُ التعلق ليس للعجز إنما عدم التعلق لأنَّ هذا الأمر لا يجوزُ عليه، والقدرة كما قلنا تتعلقُ بالممكنات، فلا تعلقَ لها بالمستحيل العقلي ولا بالواجب العقليّ.
-قال المؤلف : وتارةً يكونُ لعدم قبول ذلك الشىء العدَمَ لكونه واجبًا عقليًّا : لأنه واجبٌ عقلي لا تتعلقُ به القدرة.
-قال المؤلف : والعجز هو الأول : العجزُ هو الأول يعني العجز أنْ لا تتعلقَ القدرة بالشىء لقصورها عنه، هو ممكنٌ عقلي لكنْ القدرةُ قاصرةٌ عنه عاجزةٌ عنه. هذا هو العجز.
-قال المؤلف : والعجزُ هو الأول المنفيُّ عن قدرته تعالى لا الثاني. فلا يجوزُ أنْ يقال إنَّ الله قادرٌ على ذلك ولا عاجز : إذن إذا سألنا إنسانٌ كافر، إنسانٌ ملحد سؤالا من نحو هذه الأسئلة " هل الله قادر أنْ يخلُقَ شيئًا لا يدخل في مِلكه، ليس في مِلكه، هل الله قادرٌ أنْ يخلُقَ شريكًا له، هل الله قادرٌ أنْ يخلُقَ ولدًا له " نحو ذلك من الأسئلة، مثلُ هذا السؤال لا يقالُ في جوابه الله قادرٌ على ذلك ولا يقال في جوابه الله عاجزٌ عن ذلك إنما يقالُ في جوابه قدرةُ هذا مستحيل عقلي وقدرةُ الله لا تتعلقُ بالمستحيل. أصلا صفةُ القدرة معناها صفة بها يُرَجَّحُ أحدُ الطرفين الجائزيْن على الشىء من الوجود والعدم على الآخر، هذا معناه، هذه هي القدرة. وأمَّا المستحيل العقلي ليس له طَرَفَا وجودٍ وعدم، المستحيلُ العقلي لا يجوزُ عليه الوجود. وأيضًا الواجبُ العقلي لا يجوزُ عليه العدم.
-قال المؤلف : قال بعضهم : كما لا يقال عن الحجر عالم أو جاهل : كما شرحنا.
-قال المؤلف : وكذلك يُجابُ على قول بعض الملحدين : هذا الذي قلناه.
-قال المؤلف : وكذلك يُجابُ على قول بعض الملحدين " هل الله قادرٌ على أنْ يخلُقَ مثلَه " وهذا فيه تجويزُ المحال العقليّ : لو قال، لو أجاب إنسان " الله قادر " يكونُ جعلَ المحالَ جائزًا، يكونُ جعل المستحيل جائزًا، هذا قَلْب للحقائق، لا يجوز. إنما يقال قدرةُ الله لا تتعلقُ بالمستحيل العقلي، هكذا يقال.
-قال المؤلف : وبيانُ ذلك أنَّ الله أزليّ ولو كان له مِثْلٌ لكان أزليًّا. والأزليُّ لا يُخْلَقُ لأنه موجودٌ فكيف يُخْلَقُ الموجود : لو كان لله مِثْل لا بد أنْ يكونَ هذا المثلُ أزليًّا بلا ابتداء، والذي يكونُ بلا ابتداء لا يُخْلَق، كيف يقال " هل يستطيع اللهُ أنْ يخلُقَ مثلَه " السؤال خطأ من أصله. كما أنَّ الذي يقول " هل الله قادر أنْ يخلُقَ لنفسه ولدًا " سؤالُهُ خطأ، من أصله خطأ.
-قال المؤلف : أمَّا المستحيلُ العقليّ فعدمُ قَبوله الدخولَ في الوجود ظاهرٌ : ظاهر أنَّ المستحيل العقلي مثل الشريك لله لا يقبلُ الدخولَ في الوجود.
-قال المؤلف : وأمَّا الواجبُ العقليّ فلا يقبَلُ حدوثَ الوجود لأنَّ وجودَه أزليّ : أمَّا الواجبُ العقليّ ما لا يجوزُ عليه العدم موجود بلا ابتداء لأنه لا يجوزُ عليه العدم، لأنه لو كان لوجوده ابتداء لكان معدومًا قبل ذلك، لكنْ نحنُ نقولُ لا يجوزُ عليه العدم. إذن لا بد أنْ يكونَ وجودُهُ بلا ابتداء، فكيف يقال " هل يستطيعُ اللهُ أنْ يخلُقَه " ؟!! ووجودُه بلا ابتداء ؟ السؤالُ خطأ.
-قال المؤلف : فرقٌ بين الوجود وبين الدخول في الوجود : الدخولُ في الوجود هو الوجودُ بعد عدم.
-قال المؤلف : فالوجودُ يشمَلُ الوجودَ الأزليّ والوجودَ الحادثَ : إذا قلنا الوجود، يطلَقُ على الوجود الأزليّ الذي هو وجودُ الله الذي هو بلا ابتداء، ويطلقُ على الوجود الحادث المخلوق الذي هو بعد عدم.
-قال المؤلف : وكلٌّ منهما يسمى وجودًا. أمَّا الدخولُ في الوجود فهو الوجودُ الحادث : أمَّا إذا قلنا الدخول في الوجود معناه صار موجودًا بعد أنْ كان معدومًا، هو الوجودُ الحادث وهذا لا يجوزُ أنْ يُطْلَقَ على الأزليّ.
-قال المؤلف : فالواجبُ العقليّ اللهُ وصفاتُهُ، فاللهُ واجبٌ عقليّ، وجودُهُ أزليّ : الله واجبٌ عقليّ يعني يحكمُ العقلُ بأنَّ الله لا يجوزُ عليه العدم وأنَّ وجودَه بلا ابتداء.
-قال المؤلف : وصفاتُهُ أزلية. ولا يقال لله ولا لصفاتِهِ داخلٌ في الوجود : كما شرحنا.
-قال المؤلف : لأنَّ وجودَهما أزليّ : والذي يدخُلُ في الوجود معناه ما كان موجودًا ثم وُج،ِد وهذا لا يقال في حقّ الله.
-قال المؤلف : فقولُنا إنَّ الواجبَ العقليّ لا يقبَلُ الدخولَ في الوجود صحيحٌ : نعم، هذا كلامٌ صحيح لأنَّ الذي يدخُلُ في الوجود هو الذي كان معدومًا. إنما نقول " الله موجود " لا نقول يدخل في الوجود. هذا كلامٌ صحيح واضح.
-قال المؤلف : لكنْ يقصُر عنه أفهامُ المبتدئين في العقيدة، أمَّا عند مَنْ مارس فهي واضحةُ المراد : هذا شىءٌ بعضُ الذين يبتدؤون في تعلُّم العقيدة قد لا يتضحُّ لديهم، نُفْهِمُهُم إياه. أمّا مَنْ تعلَّمَ مَنْ مارس فهذا واضح بالنسبة إليه.
-العلم : كذلك الآن ننتقِلُ للكلام عن صفة العلم لله تعالى.
-قال المؤلف : اعلم أنَّ علمَ الله قديمٌ أزليّ كما أنَّ ذاتَه أزليّ : كما أنَّ ذاتَ الله أزليٌّ بلا ابتداء عِلْمُهُ أزليٌّ بلا ابتداء.
-قال المؤلف : فلم يَزَلْ عالـِمًا بذاته وصفاته وما يُحْدِثُهُ من مخلوقاته : الله يعلَمُ ذاتَه، اللهُ يعلمُ صفاتِهِ، اللهُ يعلمُ ما يُحْدِثُهُ من مخلوقاته، واللهُ يعلمُ ما لا يوجَدُ أنْ لو وُجِدَ كيف يكونُ وجودُهُ. اللهُ يعلمُ كلَّ ذلك بعلم أزليّ لا ابتداء له ولا انتهاء له، لا يَحْدُثُ دَفْعَةً بعد دَفْعَة ولا شيئًا بعد شىء، ليس مثلَ علمنا يتجدد كلَّ مدة، ولا يطرأ عليه نُقصان، ليس مثلَ علمنا ننسى منه أحيانًا أشياءَ إنما علمُهُ علمٌ واحد ليس مركَّبًا، علمٌ واحد موجودٌ أزلا وأبدًا، الله متصفٌ به أزلا وأبدًا.
-قال المؤلف : فلا يتصِفُ بعلم حادث، لأنه لو جاز اتصافُهُ بالحوادث لانتفى عنه القِدَم : لا يتصفُ اللهُ بعلم حادث لأنَّ الذي تكونُ صفتُهُ حادثة، تقومُ به صفةٌ حادثة يكونُ هو حادث.
-قال المؤلف : لأنَّ ما كان مَحَلًّا للحوادث لا بد أنْ يكونَ حادثًا : كما سبق وشرحنا.
-قال المؤلف : وما أوهَمَ تجدُّدَ العلمِ لله تعالى من الآيات القرءانية كقولِهِ تعالى { الآن خَفَّفَ اللهُ عنكم وعَلِمَ أنَّ فيكم ضَعفًا } فليس المرادُ به ذلك : هذا لا يُرادُ به، بعضُ الآيات قد يفهَمُها بعضُ الناس على خلاف وجهها، قد يظنُ بعضُ الناس أنها تعطي معنىً أنَّ الله يتجددُ له علم، يعلم ما لم يكنْ يعلَمُهُ. بعضُ الناس قد لا يفهمُ معناها، يتساءَلُ عن معناها، وبعض الناس قد يَضِلُّ بسبب ذلك فيعتقدُ أنَّ الله تبارك وتعالى يتجدَّدُ له علم كما قلنا، وهي ليس معناها كما ظنَّ. { الآن خَفَّفَ اللهُ عنكم } واضحة. { وعَلِمَ } قولُهُ { وعَلِمَ } ليس مرتبطًا بالآن، ليس معناه الآن عَلِم، لا. الآن خَفَّفَ اللهُ عنكم وهو قد عَلِمَ سبحانه أنَّ فيكم ضَعفًا، عَلِمَ بعلمه الأزليّ أنَّ فيكم ضَعفًا فَخَفَّفَ عنكُمُ الآن، هذا معناها، ليس كما تخيَّل بعضُ الناس.
-قال المؤلف: وقولُهُ { وعَلِمَ } ليس راجِعًا لقولِهِ { الآن } : كما قلنا.
-قال المؤلف : بل المعنى أنه تعالى خَفَّفَ عنكم الآن لأنه عَلِمَ بعلمه السابق في الأزل أنه يكونُ فيكم ضَعفٌ : السابق في الأزل يعني العلم الموجود بلا ابتداء.
-وكذلك قولُهُ تعالى { ولَنَبْلُوَنَّكم حتى نعلمَ المجاهِدين منكم والصابرين } : ليس معنى { حتى نعلمَ المجاهدين منكم والصابرين } أنَّ الله لم يكنْ يعلم مَنْ يُجاهِد ومَنْ يصبِر، لا، إنما معنى ذلك حتى نُـمَيِّزَ، حتى يتميَّزَ مَنِ المجاهدُ ومَنِ الصابر، حتى يظهَرَ المجاهِدُ والصابر من غيرهما.
-قال المؤلف : معناه ولَنَبْلُوَنَّكم حتى نُمَيِّزَ أي نُظْهِرَ للخَلْقِ مَنْ يُجاهِد ويصبِر من غيرهم، وكان اللهُ عالـِمًا قبلُ كما نَقَلَ البخاريُّ ذلك عن أبي عُبيدةَ مَعْمَرِ بنِ الـمُثَنَّى : معمرُ بنُ المثنَّى من كبار علماء اللغة، قال " هذا ليس معناه أنَّ الله لم يكنْ عالـمًا ثم عَلِم، لا، معناه لِيَتَمَيَّزَ ذلك، وكان اللهُ عالـمًا في الأزل بذلك.
-قال المؤلف : وهذا شبيهٌ بقوله تعالى { لِيَميزَ اللهُ الخبيثَ من الطَّيِّب } : هكذا.
-الحياة : الآنَ نتقِلُ للكلام عن صفة الحياة لله.
-قال المؤلف : يجبُ لله تعالى الحياة فهو حيٌّ لا كالأحياء، إذْ حياتُهُ أزليةٌ أبديةٌ ليست بروح ودم : من صفات الله تبارك وتعالى الواجبةِ له صفةُ الحياة أي معنى ذلك أنَّ الله متصفٌ بحياة أزلية أبدية، حيٌّ بحياة أزلية أبدية. لأنَّ الذي يكونُ عالـِمًا ويكونُ مريدًا ويكونُ قادرًا لا بد أنْ يكونَ عالـِمًا (حيًّا-سبق لسان). فاللهُ متصفٌ بصفة الحياة التي لا تشبه حياتَنا، ليست باجتماع روح ولحم وعظم، لا، إنما حياتُهُ صفةٌ لائقةٌ بذاته عزّ وجلَّ.
-قال المؤلف : والدليلُ على وجوب حياته وجودُ هذا العالم، فلو لم يكنْ حيًّا لم يوجَدْ شىءٌ من العالم : لأنَّ وجودَ العالم بإيجاد موجِد عالـِمٍ مريد قادر، ولا يكونُ الشىءُ عالـِمًا مريدًا قادرًا إلا إذا كان حيًّا. إذن لو لم يكنِ اللهُ حيًّا لـَمَا كان عالـِمًا ولا مريدًا ولا قادرًا، إذًا لـَمَا وُجِدَ شىءٌ من هذا العالم، لكنَّ هذا العالم موجود إذن اللهُ تعالى حيٌّ بحياة، لا تشبه حياتَنا، أزليةٍ أبدية.
-قال المؤلف : لكنَّ وجودَ العالم ثابتٌ بالحِسِّ والضرورة بلا شك : نعم.
-الوَحدانية : الآن ننتقِلُ للكلام عن صفة الوحدانية لله أي أنَّ الله تعالى واحد.
-قال المؤلف : معنى الوحدانية أنه ليس ذاتًا مؤلَّفًا من أجزاء : عندما نقولُ عن الله تبارك وتعالى واحد هذا معناه أنه لا مثيلَ له، لا ثانيَ له، لا مثيلَ له ولا شبيه، وهذا معناه أنه ليس مركَّبًا ليس مؤلَّفًا من أجزاء، هذا معنى الوحدانية عندما يُطْلَقُ على الله. وهذا يعني أنّه لا يتصفُ غيرُهُ بصفة كصفته، هذا معنى الوحدانية. فإذن معنى الوحدانية عندما يُطلَقُ على الله هذه الأمورُ الثلاثة " الله لا ثانيَ له، لا شبيه له، لا أحد يتصفُ بأية صفة من صفاته وليس مُتَجَزِّءًا مركَّبًا " هذا معنى الوحدانية في حقّ الله تبارك وتعالى.
-قال المؤلف : فلا يوجَدُ ذاتٌ مثلُ ذاتِهِ وليس لغيره صفةٌ كصفته أو فعلٌ كفعله : لا يوجَدُ غيرُهُ خالق، هو وحده الخالق. المخلوقاتُ أفعالُها التي تفعلُها بإرادتها إكتسابات، ليست خلقًا، أمَّا الذي يخلُقُها هو الله. ففِعْلُهُ ليس كِفِعْلِ غيره سبحانه.
-قال المؤلف : وليس المرادُ بوحدانيته وحدانيةَ العدد : عندما يقال عن الله واحد لا يقصَدُ العدد.
-قال المؤلف : إذِ الواحدُ في العدد له نصفٌ وأجزاءٌ أيضًا : إذا قلتُ "تفاحةٌ واحدة" تتجزَّأ ويُزادُ إليها تفاحة أخرى فيصيرُ المجموعُ اثنين، وهكذا إذا قلتُ إنسانٌ واحد، هذا يكونُ من طريق العدد. أمَّا المقصودُ هنا والمراد بالواحد في حقّ الله أي الذي لا شريكَ له سبحانه كما قال الإمام أبو حنيفة " واللهُ واحدٌ لا من طريق العدد ولكنْ من طريق أنه لا شريكَ له سبحانه ".
-قال المؤلف : بل المرادُ أنه لا شبيهَ له : هذا هو.
-قال المؤلف : وبُرهانُ وحدانيته هو أنه لا بد للصانع : للصانِعِ أي للخالق.
-قال المؤلف : من أنْ يكونَ حيًّا قادرًا عالـِمًا مريدًا مختارًا : وإلا لم يكنْ خالقًا، الذي يخلُقُ لا بد أنْ يكونَ متصفًا بهذه الصفات.
-قال المؤلف : فإذا ثَبَتَ وصفُ الصانع بما ذكرناه : بما أنَّ الخالق متصفٌ بهذه الصفات التي ذكرناها.
-قال المؤلف : قلنا لو كان للعالم صانعانِ وجَبَ أنْ يكونَ كلُّ واحد منهما حيًّا قادرًا عالـِمًا مريدًا مختارًا : لو كان العالم له خالقان، لو كان لله شريك لكان كلٌّ منهما من الخالقيْن لا بد أنْ يكونَ عالـِمًا مريدًا مختارًا.
-قال المؤلف : والمختاران يجوزُ اختلافُهُما في الإختيار : والمختاران يجوزُ في العقل أنْ يختلِفا لأنَّ أحدَهما ليس مجبَرًا على موافقة الآخر.
-قال المؤلف : لأنَّ كلَّ واحد منهما غيرُ مُجْبَرٍ على موافقة الآخر في اختياره، وإلا لكانا مجبوريْن : لو كان كذلك لكانا مجبوريْن، لـَمَا كانا مختاريْن.
-قال المؤلف : والمجبورُ لا يكونُ إلهًا. فإذا صحَّ هذا فلو أراد أحدُهما خلافَ مرادِ الآخر في شىء : إذا كان الأمرُ كذلك لو أنَّ أحدهما أرادَ خلافَ مرادِ الآخرِ في شىء، أراد واحدٌ منهما، على فرض، لو فرضنا أنه يوجدُ إلهان، لو أراد أحدُهما حياةَ زيدٍ، أنْ يكونَ زيدٌ في وقت ما حيًّا وأراد الآخرُ موتَ زيدٍ، أراد الآخرُ أنْ يكونَ زيدٌ ميْتًا في هذا الوقت.
-قال المؤلف : كأنْ أراد أحدُهما حياةَ شخص وأراد الآخرُ موتَه لم يَخْلُ من أنْ يَتِمَّ مرادُهما أو لا يَتِمَّ مرادُهما أو يَتِمَّ مرادُ أحدهما ولا يَتِمَّ مرادُ الآخر : هنا ثلاثةُ احتمالات مبنية على " لو، لو فرضنا ". ثلاثةُ احتمالات أنْ يَحصُلَ مرادُ الإثنين، أنْ لا يحصُلَ مرادُ الإثنين، أنْ يحصُلَ مرادُ أحدهما ولا يحصلَ مرادُ الآخر، لا يوجدُ إلا هذه الإحتمالاتُ الثلاثة.
-قال المؤلف : ومحالٌ تمامُ مُرَادَيْهِما لِتَضَادِّهما : ولا يجوزُ أنْ يَتِمَّ مرادُ الإثنين، هذا مستحيل لأنَّ ما أراده أحدُهما ضِدُّ الآخر، وجودُ هذا يقتضي عدمَ الثاني فكيف يوجَدان معًا ؟!!! حتى يكونَ حيًّا لا بد أنْ لا يكونَ ميْتًا، وحتى يكونَ ميْتًا لا بد أنْ لا يكونَ حيًّا، فكيف يوجَدانِ معًا ؟!!! لا يكون.
-قال المؤلف : أي إنْ أراد أحدُهما حياةَ شخص وأراد الآخرُ موتَه يستحيلُ أنْ يكونَ هذا الشخصُ حيًّا وميّتًا في ءان واحد : كما في الـمِثال الذي ذكرناه لا يكونُ الشخصُ حيًّا ميْتًا في الوقت نفسه، مستحيل هذا. إذن هذا محالٌ، لا يجوزُ أنْ يَتِمَّ مرادُهُما.
-قال المؤلف : وإنْ لم يَتِمَّ مُرادُهُما فهما عاجزان : إذا لم يَتِمَّ مرادُ هذا ولا مرادُ هذا فهما عاجزان والعاجزُ لا يكونُ إلهًا.
-قال المؤلف : والعاجزُ لا يكونُ إلهًا. وإنْ تَمَّ مرادُ أحدهما ولم يَتِمَّ مرادُ الآخر فإنَّ الذي لم يتِمَّ مُرادُهُ عاجزٌ ولا يكونُ العاجزُ إلهًا ولا قديمًا : وإذا حَصَلَ مرادُ أحدِهما والآخر ما تَنَفَّذَ مرادُهُ إذن هذا الذي لم يَتَنَفَّذْ مرادُهُ عاجز والعاجز لا يكونُ إلهًا، العاجزُ لا يكونُ أزليًّا، إذن هو مخلوق، إذن ليس إلهًا. فبهذا يَتِمُّ البرهانُ العقليّ على وحدانية الله تبارك وتعالى، العقلُ يدلُّ على أنه لا يجوزُ إلهٌ إلا إلهٌ واحد وهو اللهُ عزّ وجلّ.
-قال المؤلف : وهذه الدِّلالةُ معروفةٌ عند الموحِّدين : هذا الدليل مشهور، معروف.
-قال المؤلف : تسمَّى بِدِلالةِ التمانع : نعم، هكذا يقال لها " دِلالةُ التمانع " وهي مأخوذةٌ من القرءان.
-قال المؤلف : قال تعالى { لو كان فيهما ءالهةٌ إلا اللهُ لَفَسَدَتا } : {لو كان فيهما } أي في السماء والأرض. ومعنى "في " هنا اللام، أي لو كان للسموات والأرض { لو كان فيهما ءالهةٌ } أي لو كان لهما {ءالهةٌ إلا الله } غيرُ الله، لو كان هناك شريكٌ لله في الألوهية { لفسدتا } يعني لـَمَا جرتا على نظام واتِّسار أي لما وُجِدتا فجرتا على انتظام واتسار. { لو كان فيهما ءالهةٌ إلا الله لفسدتا } أي لـَمَا كانتِ السمواتُ والأرضُ موجودةً كما هي موجودةٌ الآن تجري على انتظام واتسار، بل لـَمَا وُجِدتا، كما بيَّنا في الدليل الذي ذكرناه، في الدليل العقلي الذي ذكرناه. هذا الدليل أخذه علماءُ التوحيد من هذه الآية.
-القيامُ بالنفس : الآنَ ننتقِلُ إلى الكلام عن صفة أخرى هي صفةُ القيام بالنفس.
-قال المؤلف : اعلم أنَّ معنى قيامِهِ بنفسه هو استغناؤه عن كلِّ ما سواه : هذا معنى القيام بالنفس، الله قائمٌ بنفسه أي أنَّ الله تعالى لا يحتاجُ إلى غيره.
-قال المؤلف : فلا يحتاجُ إلى مُخَصِّصٍ له بالوجود : مثلا لا يحتاجُ إلى مَنْ يوجِدُهُ لأنه موجودٌ أزلا بلا ابتداء.
قال المؤلف : لأنَّ الإحتياجَ إلى الغير ينافي قِدَمَهُ : هكذا.
-قال المؤلف : وقد ثَبَتَ وجوبُ قدمِهِ وبقائه : ولا يحتاجُ سبحانه وتعالى إلى شىء من الأشياء. طاعاتُنا الله أمَرَنا بها ليس لأنه محتاجٌ إليها، المعاصي اللهُ نهانا عنها ليس لأنها تَضُرُّه، الله لا يحتاجُ شيئًا ولا يَضُرُّه شىء. هو مستغنٍ عن كلِّ ما سواه، هذا معنى القيامِ بالذات أو القيام بالنفس.
-المخالفةُ للحوادث : المخالفة معناها عدمُ المشابهة. للحوادث أي للمخلوقات. فكلامُنا الآن عن صفة لله تعالى هي المخالفةُ للحوادث أي عدمُ مشابهةِ الله لشىء من مخلوقاته.
-قال المؤلف : يجبُ لله تعالى أنْ يكونَ مخالفًا للحوادث بمعنى أنه لا يشبه شيئًا من خلقه. فليس هو بجوهر يَشْغَلُ حيِّزًا ولا عَرَض : الله تبارك وتعالى ليس هو جوهرًا ولا هو عرضًا. الجوهر هو كالجسم، الحجم، هذا معنى الجوهر. الذي يشغَلُ من الفراغ حَيِّزًا، الذي إذا وُجِدَ في مكان لا يوجَدُ غيرُهُ فيه، هذا هو الجوهر. أمَّا العَرَض فهو الصفةُ التي تقومُ بالجوهر، الصفةُ التي يتصِفُ بها الجوهر. الجوهرُ والعرض مخلوقان والله تعالى لا يُشْبِهُهُما.
-قال المؤلف : والجوهرُ ما له تحيُّزٌ وقيامٌ بذاته كالأجسام : هذا هو الجوهر، لا يحتاجُ إلى غيره ليقومَ به، الحجمُ لا يحتاجُ إلى حجم ءاخر حتى يوجَدَ ويأخُذَ هذا الحيِّزَ من الفراغ، لا، بذاته يأخُذُه. بذاته يعني من غير حاجة إلى حجم ءاخر حتى يتحيَّزَ في هذا الحيِّزِ من الفراغ لكنْ الذي يجعَلُهُ في هذا الحيِّز ويخلُقُه ويوجِدُهُ هو الله.
-قال المؤلف : والعَرَض ما لا يقومُ بنفسه وإنما يقومُ بغيره : أمَّا العرض هو الصفة، لا توجَدُ وحدها، إنما تقومُ بالجوهر، يكونُ الجوهرُ متصفًا بها، تحتاجُ إلى الجوهر حتى توجَد. ما بتشوف سَوَاد لوحده، لا بد أنَّ السواد قائم بشىء، قائم بالدُّخان قائم بالحجر قائم بالباب. لا تجِدُ حركةً وحدها، ولا مرة بتشوف هيك حركة وحدها، لا بد من أنْ تكونَ قائمةً بشىء يتحرك، حجر يتحرك، إنسان يتحرك أو غيرُ ذلك. لا بد من حجم يقومُ به هذه الصفة، هذه الصفةُ التي تقومُ بالحجم يقالُ لها العرض، تحتاجُ إلى الحجم حتى توجَد.
-قال المؤلف: كالحركةِ والسكون والإجتماع والإفتراق والألوان والطعوم والروائح : كلُّ هذه أعراض لا توجَدُ وحدَها.
-قال المؤلف : ولذلك قال الإمامُ أبو حنيفةَ في بعض رسائله في علم الكلام : الإمام أبو حنيفة ألَّفَ رسائل في العقائد، في بعضها يقول " أنى يشبه الخالقُ مخلوقَه ".
-قال المؤلف : قال الإمام أبو حنيفة : " أنَّى يشبه الخالقُ مخلوقَه " : معناه لا يشبه الخالقُ مخلوقَه. " أنَّى " هذا للإستبعاد، " أنى يكونُ ذلك " معناه كيف يكونُ ذلك ؟!!! لا يكونُ ذلك، هذا معنى " أنَّى " للإستبعاد. " أنَّى يشبه الخالقُ مخلوقَه " يعني لا يشبه الخالقُ مخلوقَه.
-قال المؤلف : معناه لا يَصِحُّ عقلا ولا نقلا أنْ يشبه الخالقُ مخلوقَه : نعم، لا العقلُ يجيزُ ذلك ولا الشرعُ يُجيزُ ذلك.
-قال المؤلف : وقال أبو سليمانَ الخطابيُّ : وأبو سليمانَ الخطابيّ في طبقة شيوخَ البيهقي، رحمهما الله.
-قال المؤلف : قال أبو سليمان الخطابيّ " إنَّ الذي يجبُ علينا وعلى كلِّ مسلمٍ أنْ يعلَمَهُ " : كلُّ واحد من المسلمين يجبُ أنْ يعلمَ هذا.
-قال المؤلف : قال أبو سليمان : أنَّ ربَّنا ليس بذي صورة ولا هيئة : الله تعالى ليس له شكل، ليس له هيئة، سبحانه.
-قال المؤلف : قال أبو سليمان : فإنَّ الصورة تقتضي الكيفيةَ : الذي يكونُ له شكلٌ وهيئة يكونُ متصفًا بصفات المخلوقات، هذا معنى الكيفية. الكيفيةُ نوعٌ من صفات المخلوقات.
-قال المؤلف : قال أبو سليمان : وهي عن الله وعن صفاته منفية " ولا يجوزُ أنْ يكونَ اللهُ كذلك. هذه الكيفيةُ منفيةٌ عن الله، الله منزَّهٌ عنها، منزَّهٌ عن أنْ يُشْبِهَ المخلوقات، سبحانه.
-قال المؤلف : رواه عنه البيهقيُّ في الأسماء والصفات : لذلك كان كثيرٌ من السلف، كثير كثير إذا ذَكَروا صفاتِ الله تعالى يقولون " بلا كيفية " لأنَّ الكيفية صفاتُ المخلوقين، الله تبارك وتعالى مُنَزَّهٌ عن ذلك، لا يشبه خلقَه بأيّ وجه من الوجوه.
-قال المؤلف : وقد تُطْلَقُ الكيفيةُ بمعنى الحقيقةِ كما في قولِ بعضِهم "
كيفيةُ المرءِ ليس المرءُ يُدْرِكُهَا فكيف كيفيةُ الجبارِ في القِدَمِ " : أحيانًا قليلة قد يستعمِلون الكيفيةَ بمعنى الحقيقة. " كيفيةُ المرءِ ليس المرءُ يُدْرِكُها " معناه حقيقةُ المرء ليس المرءُ يدركها. الكيفيةُ هنا يرادُ بها الحقيقة. " فكيف كيفيةُ الجبارِ في القِدَم " فكيفَ حقيقةُ الله في الأزل. ومع هذا، التعبيرُ بـ " كيفية الجبار في القِدَم " فيه بشاعة، لو كان المقصودُ فكيف حقيقة الجبار، هذا هو المقصود، لو كانتِ الكيفية تطلَقُ بمعنى الحقيقة لكنْ كان ينبغي استعمالُ كلمةٍ أخرى بَدَلَها لأنه أبعد عن إيهام العوام بما لا يجوز. كيفيةُ المرء ليس المرء يدركها فكيف يُدْرِكُنْها(؟) الخالقُ الأزليّ. شيخنا رحمه الله تعالى قال " لو قال هذا لكان أحسن ".
-قال المؤلف : ومرادُ هذا القائلِ الحقيقةُ : نعم، مرادُهُ بالكيفية الحقيقة.
-قال المؤلف : وهذا البيتُ ذَكَرَهُ الزركشيُّ وابنُ الجوزيّ وغيرُهُما : وأمَّا الكيفيةُ بمعنى الشكل والهيئة والتتابُع وما يشبه ذلك فهذا من صفات المخلوق ولا يجوزُ إطلاقُهُ على الله ولا على صفاتِ الله تعالى.
-قال المؤلف : وقال أبو جعفرٍ الطحاويّ " ومَنْ وصف اللهَ بمعنىً من معاني البشر فقد كفر " : مَنْ وَصَفَ اللهَ بأية صفةٍ من صفات البشر فهو كافر. من صفات البشر الحركة، من صفات البشر السكون، من صفات البشر التكلُّم بصوت، من صفات البشر السكوت، من صفات البشر القعود، من صفات البشر الإنتقال من فوق إلى تحت ومن تحت إلى فوق، كلُّ هذا من صفات البشر لا يجوزُ أنْ يوصَفَ اللهُ تعالى به. أبو جعفرٍ الطحاوي في عقيدته التي قال إنها عقيدةُ أهل السّنة والجماعة يقول " ومَنْ وصف اللهَ بمعنى من معاني البشر فقد كفر " الذي يصِفُ اللهَ بأية صفة من صفات المخلوقين فهو كافر. نسألُ اللهَ أنْ يُعيذَنا من ذلك.
-قال المؤلف : وهو من أهل القرن الثالث : من أهل المائة الثالثة، أبو جعفر الطحاوي، أغلبُ حياته في القرن الثالث، في القرن الذي مدحَهُ نبيُّ الله عليه الصلاة والسلام.
-قال المؤلف : فهو داخِلٌ في حديث " خيرُ القرون قَرني " المائةُ سنة التي أنا فيها.
-قال المؤلف : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم " ثم الذين يَلونَهم " ثم في المائة الثانية.
-قال المؤلف : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم " ثم الذين يَلونَهم " : ثم في المائة الثالثة. وفي هذه المائة الثالثة كان حياةُ الطحاويِّ وأغلبُ حياته وأغلبُ حياة الأشعريّ وأغلبُ حياة الماتريديّ رحمهم الله.
-قال المؤلف : رواه الترمذي. والقرنُ المرادُ به مائةُ سنة كما قال ذلك الحافظ أبو القاسمِ بنُ عساكرَ في كتابه " تبيينُ كَذِبِ المفتري " الذي ألَّفَه في التنويه بأبي الحسنِ الأشعري رضي الله عنه : الحافظُ ابنُ عساكر ألَّفَ كتابًا في مدح الإمام الأشعريّ رضي الله تعالى عنه، هذا الكتاب اسمُهُ " تبيينُ كَذِبِ المفتري " فيه ذَكَرَ تفسيرَ هذا الحديث. بهذا نكون أنهينا الكلام على كلِّ صفة من صفات الله الثلاثَ عَشْرَةَ.
-صفاتُ الله كلُّها كاملة : وهذه الصفاتُ الثلاثَ عشْرَة كلُّها كاملة ما فيها نقص.
-قال المؤلف : صفاتُ الله أزليةٌ أبدية : كما قلنا قبلُ.
-قال المؤلف : لأنَّ الذات أزليّ فلا تحصُلُ له صفةٌ لم تكنْ في الأزل : كما ذكرنا قبلُ أنَّ الذات الأزلي لا يوصَفُ بصفة حادثة، بصفة وُجِدَتْ بعد عدم.
-قال المؤلف : أمَّا صفاتُ الخلق فهي حادثةٌ تقبَلُ التطورَ من كمال إلى أكملَ : أمَّا صفاتُ الخلق هذه حادثة تقبلُ التطور من كمال إلى أكمل. " اللهم صلِّ على محمد " يعني اللهم زِدْهُ شرفًا " فإذن رُتْبَةُ النبيّ كمالُهُ يقبَلُ الزيادة، نحن نطلبُ من الله ذلك. هذا بالنسبة للمخلوق لأنَّ كمال المخلوق مخلوق، أمَّا كمالُ الله أزليٌّ أبديّ لا يقبَلُ الزيادةَ ولا النقصان.
-قال المؤلف : فلا يتجدَّدُ على علم الله تعالى شىء. والله تعالى خَلَقَ كلَّ شىء بعلمه الأزليّ وقدرته الأزلية ومشيئته الأزلية، فالماضي والحاضِرُ والمستقبل بالنسبة لله أحاطَ به بعلمه الأزليّ : هكذا.
-قال المؤلف : وأمَّا قولُهُ تعالى { ولَنَبْلُونَّكم حتى نعلمَ المجاهدين منكم والصابرين } فليس معنى ذلك أنه سوف يعلمُ المجاهدين بعد أنْ لم يكنْ عالـِمًا بهم بالإمتحان والإختبار : { ولنبلونَّكم } أي لنمْتَحِنَنَّكم. { حتى نعلمَ } أي حتى يَتَمَيَّزَ.
-قال المؤلف: وهذا يستحيلُ على الله تعالى، بل معنى الآيةِ حتى نُمَيِّزَ أي حتى نُظْهِرَ للعباد المجاهدين منكم والصابرين من غيرهم : لأنَّ صفاتِ الله كاملة فلا يحدُثُ له علمُ لم يكنْ قبلُ من صفته.
-قال المؤلف : ويكفُرُ مَنْ يقول إنَّ الله يكتسِبُ علمًا جديدًا.
-قال المؤلف : وصفاتُ الله تعالى كلُّها كاملة، قال الله تعالى { ولله الأسماءُ الحسنى } : يعني لله تعالى الأسماءُ الدالةُ على الكمال، هذا معنى { الأسماء الحسنى }. والإسم يدلُّ، الإسم عَلَمٌ على الذات المتصفِ بالصفة. فإذن العالـِم يَدُلُّكَ على الذات المتصفِ بالعلم. القادر يدلُّكَ على الذات المتصف بالقدرة. { ولله الأسماءُ الحسنى } أي الأسماءُ الدالةُ على الكمال. إذن كلُّ صفاته تعالى كاملة، سبحانه.
-قال المؤلف : وقال تعالى { ولله المثلُ الأعلى } فيستحيلُ في حقه تعالى أيُّ نقص : كذلك قال تعالى { ولله المثلُ الأعلى } أي ولله الوصفُ الذي لا يشبه وصفَ غيره. ولله الوصفُ الكامل، ولله الصفةُ الكاملة، الصفاتُ الكاملة. فإذن لا يكونُ في صفاته نقصٌ سبحانه.
-قال المؤلف : وأمَّا قولُهُ تعالى { ومكروا ومَكَرَ الله والله خيرُ الماكرين } فالمكرُ من الخلق خُبْثٌ وخِداع لإيصال الضرر إلى الغير باستعمال حيلة : هذا معنى المكر إذا أُطْلِقَ على المخلوق { ومكروا ومكر الله } المكرُ إذا أطلقَ على المخلوق معناه الحيلة لإيصال الضرر إلى الغير، الخبث والخِداع لإيصال الضرر إلى الغير، وهذا لا يجوزُ أنْ يُطْلَقَ على الله. لكنْ { ومكر الله } ليس معناه مثلَ هذا.
-قال المؤلف : وأمَّا من الله تعالى فهو مجازاةُ الماكرين بالعقوبة من حيث لا يَدْرون : هذا معنى { ومكر الله } ومكروا أي عَمِلوا الخُبْثَ والخداع لإيصال الضرر للمسلمين بطريقة خفية. { ومكر الله } أي الله تعالى جازاهم على مكرهم من حيث لا يتوقَّعون. فلا يجوزُ أنْ يتصفَ اللهُ بصفة نقص.
-قال المؤلف : وبعبارة أخرى إنَّ الله أقوى في إيصال الضرر إلى الماكرين من كلِّ ماكر جزاءً لهم على مَكرهم. فالمكرُ بمعنى الإحتيال مستحيلٌ على الله : ولذلك لا يجوزُ أنْ يقولَ الواحد منا " إنَّ الله ماكر " لا. نقول ما جاء في القرءان { ومكروا ومَكَرَ الله } أمَّا أنْ نسمِّيَ اللهَ تعالى بالماكر أو نصِفَه بذلك فلا يجوز لأنَّ هذا فيه نِسْبَةُ النقصِ إليه. بهذا السياق { ومكروا ومكر الله } يكونُ معنى { ومَكَرَ الله } أي أوصل إليهم العقوبةَ من حيث لا يحتسِبون. أمَّا إذا قيل عن الله الماكر هذا لا يجوز لأنَّ هذا لا يكونُ معناه الذي يوصِلُ العقوبةَ إلى الكفار من حيث لا يحتسِبون، إنما يكونُ فيه نسبةُ النقص إليه.
-قال المؤلف : وكذلك قولُهُ تعالى { الله يستهزىءُ بهم } : الكفار قالوا { إنما نحن مستهزِئون الله يستهزىء به } هكذا جاءت الآية، هنا معناه الله يُجازيهم على استهزائهم، هذا معناه، {يستهزىءُ بهم } يجازيهم على استهزائهم. ومثلُ الذي قبلَه لا يجوز أنْ نقولَ إنَّ الله هو المستهزِىء لأنَّ معنى المستهزِىء الذي يَسْخَر، هذه صفةٌ تكونُ في البشر ولا يجوزُ أنْ يوصَفَ اللهُ تعالى بها. لكنْ بهالسياق قولُهم { إنما نحن مستهزئون الله يستهزىء بهم } يكونُ معنى {يستهزِىء } يُعاقِبُهُم على استهزائهم. فرق بين هذا وهذا. لا يجوزُ نسبةُ صفة النقص إلى الله.
-قال المؤلف : أي يُجازيهم على استهزائهم.
-قال المؤلف : واعلم أنَّ العلماء يقولون " نؤمنُ بإثبات ما وَرَدَ في القرءان والحديث الصحيح كالوجه واليد والعين والرضا والغضب وغيرِها على أنها صفاتٌ يعلَمُها الله لا على أنها جوارحُ وانفعالاتٌ : كذلك ما جاء في القرءان { يدُ الله } { وجهُ الله } { بأعيننا } ونحوُ ذلك، لا يجوزُ أنْ يُفَسَّرَ بما فيه نِسْبَةُ النقص إلى الله لأنَّ صفاتِ الله كاملة، لا يجوزُ أنْ يُفَسَّر وجهُ الله بهذا الجزء المركَّب(أشار الشيخ إلى وجهه) على البدن بالجارحة، لا يجوزُ أنْ يُفَسَّرَ يدُ الله بهذه الجارحة ( أشار الشيخ إلى كفه ) المركَّبَة على أذْرُعِنا، لا يجوزُ أنْ يفسَّر العين إذا أُضيفَتْ إلى الله تبارك وتعالى بأنَّ المراد بها هذه الجارحة(أشار الشيخ إلى عينه) التي نحن نُبْصِرُ بها، لا. إنما هذه صفاتُ كمال لأنها لو فُسِّرَت بصفات المخلوقين لكان في ذلك نِسْبَةُ النقص إلى الله، وإنما تُفَسَّرُ على ما يليقُ بالله. يقال هذه صفاتٌ تليقُ بالله، لها معنىً يليقُ بالله ليست كصفات المخلوقين، ليست الجوارح، ليست يدًا جارحة كأيدينا ولا وجهًا جارحًا كوجوهنا ولا عينًا جارحة كأعيننا، هكذا قال الإمامُ أبو حنيفة " وجهُهُ لا كوجوهنا " وهو خالقُ كلِّ الوجوه. يدُه لا كأيدينا، ليست بجارحة، هكذا قال أبو حنيفة. شدَّدَ، بيَّنَ ليست جارحةً وذلك لأنَّ الذي يصفُ الله بأنَّ له وجه جارحة يد جارحة عين جارحة يكونُ نَسَبَ إليه صفةَ النقص وهذا لا يليق، صفةَ المخلوق، هذا لا يجوز.
-قال المؤلف :كأيدينا ووجوهنا وعيوننا وغضبِنا.
-قال المؤلف : فإنَّ الجوارح مستحيلةٌ على الله : لا يجوز أنْ يوصَفَ اللهُ بها.
-قال المؤلف : لقوله تعالى { ليس كمثله شىء } : أي لا يشبه شيئًا من الأشياء بأي وجه من الوجوه. ولو كان له وجه جارحة ويد جارحة وعين جارحة لكان مِثْلَنا.
-قال المؤلف : وقوله { ولم يكنْ له كفوًا أحد } : أي لم يكنْ له مثيلٌ ولا شبيهٌ سبحانه. ولو كان له وجهٌ جارحة أو يدٌ جارحة لكان يشبهنا ولكانتِ الآيةُ باطلةً، وحاشا أنْ تكونَ ءايةٌ في كتاب الله باطلة.
-قال المؤلف : قالوا " لو كان لله عينٌ بمعنى الجارحة والجسم لكان له أمثالٌ فضلا عن مِثْلٍ واحد : لو كان لله عينٌ أو وجه أو يد بمعنى الجارحة لكان له أمثال كثيرون، ليس مِثلا واحدًا، أمثال كثيرون. لكان جسمًا ولكان مشابهًا لكلِّ الأجسام. تعالى اللهُ عن ذلك.
-قال المؤلف : ولجاز عليه ما يجوزُ على المحدَثات من الموت والفناء والتغيُّر والتطور : ولو كان الله يشبه المخلوقات لجاز عليه ما يجوزُ عليها، من الفناء والموت والتغيُّر ونحو ذلك.
-قال المؤلف : ولكان ذلك خروجًا على مقتضى البرهان العقليّ : أي لكان ذلك خروجًا من مقتضى البرهان العقلي أي لكان ذلك ضدَّ ما يقتضيه البرهانُ العقلي، الدليل العقلي، لكان ذلك خروجًا، أي لكان ضِدَّه، من مقتضى ما يقتضيه ما يدلُّ عليه البرهانِ العقلي أي الدليلِ العقلي أي لكان ذلك ضِدَّ ما يدلُّ عليه برهانُ العقل ودليله.
-قال المؤلف : على استحالة التغيُّر والتطور من حال إلى حال على الله.
-قال المؤلف : لأنَّ الدلائل العقلية على حدوث العالم طروءُ صفاتٍ لم تكنْ عليه والتحولُ من حال إلى حال : فيعرفُ من دليل العقل أنه لا يجوز أنْ يتغيَّر الله تعالى من حال إلى حال لأنَّ الدليل الذي يدلُّ على أنَّ هذا العالم مخلوق هو تغيُّرُه من حال إلى حال. فلو كان الله يوصفُ بذلك لو كان يجوزُ وصفُ الله بذلك لكان الله متغيِّرًا من حال إلى حال.
-قال المؤلف : ولا يَصِحُّ إهمالُ العقل لأنَّ الشرع لا يأتي إلا بمجوَّزات العقل أي إلا بما يَقْبَلُهُ العقلُ لأنه شاهدٌ للشرع : ولا يصحُ إهمالٌ دليل العقل في هذه المسائل العقائدية لأنّ الله تبارك وتعالى أرشدنا إلى الإعتماد على عقولنا. نحن الشرع جاء بما جاء به ونقول الشرع حقّ لكنْ ما هو الدليلُ على حقية الشرع ؟ إذا واحد قال لنا " ما دليلُكم على حقية الشرع " ؟ ليس القولُ المناسِب أنْ نجيب " الدليل على حقية الشرع هو الشرع " لأنَّ هذا يصيرُ مثل الدَّوْر، يصير دليل على حقية الشرع هو الشرع. الدليل على حقية الشرع العقل، دليل العقل يدل على حقية الشرع. إذن دليل العقل لا بد أن يكون له اعتبار في ديننا، فلا يجوزُ أنْ نهمِلَ دليلَ العقل، لا يجوز إهماله. لو لم يكن لدليل العقل اعتبار لـَمَا كان عندنا دليلٌ على صحة الشريعة. إذن دليلُ العقل لا يصحُّ إهمالُهُ بل لا بد أنْ يؤخَذَ في الإعتبار في هذه الأمور. ثم الشرع لا يأتي إلا بما يجوِّزُهُ العقل لأنه لو جاء الشرع بما لا يجوزه العقل لكان الشرعُ باطلا والشرعُ حقٌّ بلا شك. والعقل يدل على صحة ما جاء به الشرع، فالعقلُ والشرع في ديننا متعاضدان، كلُّ واحد منهما يؤيد الآخر، ليسا متعارضين كما في الأديان الأخرى الباطلة. الأديان الباطلة كلُّها بلا استثناء، العقلُ فيها وما جاء في هذه الأديان متعارضان أمَّا ديننا ليس كذلك. العقل والشرع فيه متعاضدان. {وقالوا لو كنا نسمعُ أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } هكذا يقولُ الكفار وهم في النار. يقولون لو كنا في الدنيا نسمَعُ سمعًا ننتفعُ به ونعقِل، لو كنا نستعمِلُ عقولَنا بالطريقة الصحيحة، لو كنا ننظرُ ونفكرُ بالطريقة الصحيحة ما كنا في أصحاب السعير. إذن استعمال العقل ودليله شىءٌ حسن شىءٌ مطلوب في شريعتنا في محله فيما يُدْرِكُهُ العقل في مثل هذه المسائل العقائدية.
-قال المؤلف : فالعقلُ يقضي بأنَّ الجِسم والجِسمانيات : العقل يقضي أي العقل يحكمُ أن الجسم والجسمانيات الصفات التي يتصفُ بها الجسم أي الأحوالَ العارِضَةَ للجسم أي الأحوال التي تحصُلُ للجسم هذا معنى العارِضة، تحدُث تحصُل.
-قال المؤلف : أي الأحوالَ العارِضةَ للجسم محدَثةٌ : أي موجودة بعد عدم.
-قال المؤلف : لا محالة : بلا شك.
-قال المؤلف : وأنها محتاجةٌ لمحدِث : تحتاجُ لمنْ خَلَقَهَا.
-قال المؤلف : فيلزمُ من ذلك أنْ يكونَ المتصفُ بها له محدِثٌ : إذن كلُّ مَنِ اتصف بها مخلوق له خالق لأنها هي مخلوقة، فالذي يتصف بها لا بد أنْ يكونَ مخلوقًا مثلَها.
-قال المؤلف : ولا تصحُّ الألوهيةُ لمنْ يحتاجُ إلى غيره : إذن لا يصح لا يجوز أنْ يكونَ الله متصفًا بها لأنَّ المتصفَ بها يكونُ محتاجًا إلى غيره فيكونُ مخلوقًا.
-سببُ نزول الإخلاص : وهذا أي سبب نزول الإخلاص ومعنى سورة الإخلاص متعلِّقٌ بالمبحث الذي نحن نتكلَّم فيه.
-قال المؤلف : قالت اليهود للرسول صلّى الله عليه وسلّم "صِفْ لنا ربَّكَ " : ابنُ عباس روى أنَّ النبيّ عليه الصلاة والسلام جاء إليه اليهودُ مرة، جاؤوا ليس يريدون من ذلك التعلُّم إنما جاؤوا يريدون تعجيزَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فقالوا " يا محمد، صِفْ لنا ربَّك ".
-قال المؤلف : قد كان سؤالُهُم تعنُّتًا (أي عنادًا ) لا حبًّا للعلم واسترشادًا به ، فأنزل اللهُ سورةَ الإخلاص : أنزل اللهُ تعالى سورةَ الإخلاص جوابًا لهم.
-قال المؤلف : قال الله تعالى { قل هو الله أحد } : قل يا محمد { اللهُ أحد }
-قال المؤلف : أي الذي لا يقبَلُ التعددَ والكثرة : ليس اللهُ تعالى شيئًا يَتَكَثَّر يعني ليس له ثان.
-قال المؤلف : وليس له شريكٌ في الذات أو الصفات أو الأفعال : وليس لله شريكٌ لا في الذات، لا يوجدُ ذاتٌ مثلُ ذاتِهِ. ولا في الصفات، لا يتصفُ أحدٌ بصفة كصفاته. ولا في الأفعال، لا يخلُقُ أحدٌ شيئًا فَيُبرِزُهُ من العدم إلى الوجود إلا الله. لا شريكَ له في الذات.
-قال المؤلف : وليس لأحد صفةٌ كصفاته، بل قدرتُهُ تعالى قدرةٌ واحدة : مَثَلا، بل قدرتُهُ مثلا، هذا تمثيل، بل قدرتُهُ تعالى.
-قال المؤلف : قدرةٌ واحدةٌ يَقْدِرُ بها على كلِّ شىء وعِلمُهُ : مَثَلا.
-قال المؤلف : وعلمُهُ واحدٌ يعلمُ به كلَّ شىء : وهكذا، وغيرُ ذلك من صفاته. كلُّ صفة واحدةٌ ليست كصفات المخلوقين، كلُّ صفةٍ واحدةٌ تدلُّ على الكمال اللائق به تعالى.
-قال المؤلف : قولُهُ تعالى { الله الصمد } : فإذن { قل هو الله أحد } الذي لا شريك له ولا شبيه. { الله الصمد }
-قال المؤلف : أي الذي تفتقرُ إليه جميعُ المخلوقات مع استغنائه عن كلِّ موجود : هذا معنى الصمد الذي يحتاجُهُ الكل وهو مستغنٍ عن الكلّ.
-قال المؤلف : والذي يُقْصَدُ عند الشدة بجميع أنواعها : وهو الذي يُقْصَدُ عند الشِّدَّة، بيده الأمور.
-قال المؤلف : ولا يجتَلِبُ بخلقه نفعًا لنفسه ولا يدفَعُ بهم عن نفسه ضُرًّا : لأنه سبحانه مستغنٍ عن كلِّ ما سواه.
-قال المؤلف : قولُهُ تعالى { لم يلد ولم يولد } نفيٌ للمادية والإنحلال : قولُهُ تعالى { لم يلد } أي لم ينحلَّ منه شىء، لم ينفصِل منه شىء، ليس كالولد الذي أصلُهُ شىءٌ منفصِلٌ من الوالد، لم ينفصِل منه شىء. { ولم يولد } أي ليس هو منفصِلا ومُنْحَلًّا من غيره لأنه ليس جسمًا سبحانه، لأنه موجودٌ بلا ابتداء، لأنه لا يشبه غيرَه عزّ وجلّ. هذه السورة تدلُّ على هذه الأمور.
-قال المؤلف : وهو أنْ ينحلَّ منه شىء أو أنْ يَحُلَّ هو في شىء : نعم. لا يَحُلُّ هو في غيره.
-قال المؤلف : وما وَرَدَ في كتاب " مولد العروس " من أنَّ الله تعالى قَبَضَ قبضةً من نور وجهه فقال لها كوني محمدًا فكانت محمدًا فهذه من الأباطيل المدسوسة : النبيُّ عليه الصلاة والسلام قطُّ ما قال هذا. افتراء، كذب. هذا الكلام ظاهِرُهُ أنَّ الله تعالى ضوءٌ وأنَّ محمدًا جزءٌ منه، وحاشا لنبيِّ الله عليه الصلاة والسلام أنْ يقولَ هذا.
-قال المؤلف: وحكمُ مَنْ يعتقِدُ أنَّ محمدًا صلّى الله عليه وسلّم جزءٌ من الله التكفيرُ قطعًا : قولا واحدًا بلا خلاف، لا يحتاج هذا إلى طويل نَظَر.
-قال المؤلف : وكذلك الذي يعتقدُ في المسيح أنه جزءٌ من الله : الذي يعتقدُ في محمد عليه الصلاة والسلام هذا كافر كالذي يعتقدُ أنَّ المسيح جزءٌ من الله هو أيضًا كافر، أو يعتقد في أيّ إنسان ءاخر أنه جزءٌ من الله، هو أيضًا كافر.
-قال المؤلف : وليس هذا الكتاب لابنِ الجوزيّ رحمه الله : في الماضي كانوا يَبيعون هذا الكتاب على أنه من تأليف ابن الجوزيّ وهو كَذِبٌ عليه، ابنُ الجوزيّ قطُّ ما ألَّفَ هذا الكتاب. مرتبةُ ابنِ الجوزيّ أعلى بكثير من أنْ يكتُب أو يؤلِّفَ مثلَ هذا.
-قال المؤلف : ولم يَنْسِبْهُ إليه إلا المستشرقُ بروكلمان : ما أحد نَسَبَ إلى ابنِ الجوزيّ هذا الكتاب إلا بروكلمان مستشرقٌ ألمانيّ أدَّعى أنه من تأليف ابنِ الجوزيّ. وأمَّا علماءُ الإسلام ما أحدٌ منهم نَسَبَ إلى ابن الجوزي هذا الكتابَ السخيف.
-قال المؤلف : وقولُهُ تعالى { ولم يكنْ له كفوًا أحد } : الكُفُؤ معناه النظير والمثيل.
-قال المؤلف : أي لا نظيرَ له بوجه من الوجوه : هكذا. الكفؤ النظيرُ والمثيل والشبيه. إذن كما تَرَوْنَ لـَمَّا قال اليهودُ للنبيّ عليه الصلاة والسلام " صِفْ لنا ربَّكَ " ما ذَكَرَ النبيُّ عليه الصلاة والسلام سماءً ولا ذَكَرَ أرضًا ولا ذَكَرَ عرشًا ولا ذكر كُرسيًّا ولا ذَكَرَ طولا ولا ذكر عرضًا ولا ذكر انتقالا ولا ذكر حركةً ولا ذكر سكونًا ولا ذكر لونًا ولا ذكر صورةً ولا ذكر هيئة إنما أنزل عليه اللهُ هذه السورة التي كلُّها تنزيهٌ لله عن مشابهة المخلوقين، التي كلُّها إثباتُ صفات الكمال لله، التي تعطي أنَّ الله موجودٌ لا يشبه الموجودات بأي وجه من الوجوه، ولا يجوزُ تشبيهه بخلقه، وليس له مثيلٌ ولا شبيه. ثم قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام " هذه صفةُ ربّي عزّ وجلّ " رواه الإمام البيهقي وهو حديثٌ قوي.