بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين.
سنتكلم إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الملك هذه السورة هي ثلاثون ءاية وهي مكية في قول الجميع وتسمى الواقية وتسمى المنجية وروى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “سورة في القرءان ثلاثون ءاية شفعت لصحابها حتى غُفر له تبارك الذي بيده الملك”
وروى الترمذي وأبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهم أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ضرب خِباءه على قبر الخِباء أي الخيمة وهو لا يحسب أن في هذا المكان قبر فصار يسمع من القبر تلاوة هذه السورة تبارك الذي بيده الملك.
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم أخبر ما حصل ذكر له ما حصل معه وما سمعه قال عليه الصلاة والسلام:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شىء قدير}. تبارك معناه تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين تبارك الله تنزه الله سبحانه وتعالى عن صفات المخلوقين فالله عزّ وجلّ موصوف بكل كمال يليق منزه عن كل نقص في حقه فالله عزّ وجلّ هو مالك الملك بيده الملك أي بتصرفه فهو سبحانه وتعالى يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعزّ من يشاء ويُذل من يشاء سبحانه وتعالى وهو على كل شىء قدير لا يعجزه شىء فلا أحد يستطيع أن يمنع نفاذ مشيئة الله سبحانه وتعالى لا يعجزه شىء هو على كل شىء قدير وقد قال الله عزّ وجلّ في سورة ءال عمران: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآء وَتُعِزُّ مَن تَشَاآء وَتُذِلُّ مَن تَشَآء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ}
ثم قال الله عزّ وجلّ: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيُّكم أحسن عملا}
الله عزّ وجلّ هو خلق الموت والحياة يحيي من يشاء ويميت من يشاء سبحانه وتعالى جعل الدنيا دار حياة ودار فناء وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء وقد الله قال عزّ وجلّ في القرءان الكريم في سورة البقرة: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وهذا إنكار على الذين يكفرون بالله والعياذ بالله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا أي نطفًا في أصلاب ءابائكم فأحياكم أحياكم الله عزّ وجلّ في أرحام أمهاتكم ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم ثم يحييكم للبعث وإليه ترجعون للحساب والجزاء هذا إنكار على الذين يكفرون بالله والعياذ بالله عزّ وجلّ والله عزّ وجلّ وهو الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي كما قال سبحانه وتعالى في سورة ءال عمران {وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي} يخرج الله عزّ وجلّ البيضة من الفرخ ويخرج الدجاجة من البيضة سبحان القادر على كل شىء.
فهو سبحانه وتعالى: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم}خلق الله الموت والحياة ليمتحنكم بأمره ونهيه فيُظهر الله سبحانه وتعالى ما علم أنه يكون منكم فيجازيكم على عملكم ومعنى {أيُّكم أحسن عملا} أي أيّكم أخلص وأصوب الخالص أن يكون لوجه الله والصواب أن يكون على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال الله عزّ وجلّ:{وهو العزيز الغفور} العزيز من أسماء الله ومعناه الغالب الذي لا يُغلب والغفور هو سبحانه وتعالى الذي يغفر لمن تاب من عباده.
وقد قال الله عزّ وجل: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} أي أن الله لا يغفر للكافر الذي مات على كفره لا يغفر الله له ولا يرحمه سبحانه وتعالى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء أي لمن المسلمين نسأل الله عزّ وجلّ أن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا.
ثم قال الله عزّ وجلّ: {الذي خلق سبع سموات طباقًا} الله عزّ وجلّ خلق سبع سموات طباقًا بعضها فوق بعض بالمحاذاة من غير أن تتصل واحدة منها بالأخرى بل بين كل سماء وسماء بُعد شاسع ومسافة واسعة.
{ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} التفاوت معناه الاختلاف والاختلاف هنا المراد به ما يناقض الحكمة بالنسبة للخالق سبحانه وتعالى الله عزّ وجلّ حكيم لا يجوز عليه العبث والسفه فإن الله عزّ وجل خلق الخلق بحكمة ولم يخلق شيئًا عبثًا.
انظروا معي في سورة العنكبوت في قول الله عزّ وجلّ:{خلق الله السموات والأرض بالحق إنّ في ذلك لآية للمؤمنين} خلق الله السموات والأرض بالحق أي محقًا لحكمة خلقها الله سبحانه وتعالى فهي من الدلالة على قدرته سبحانه وتعالى ألا ترى قول الله عزّ وجلّ {إن في ذلك لآية للمؤمنين}خص الله المؤمنين بالذكر في الآية لإنتفاعهم بها.
فهنيئًا لأولي الألباب هنيئًا لأصحاب العقول النيرة الذين مدحهم الله عزّ وجلّ في القرءان الكريم فقال:{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} فإن هؤلاء الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ويتفكرون في هذا العالم هذا العالم الذي يتفكر فيه يستدل بأنه لا بد له من خالق خلقه وأوجده أبرزه من العدم إلى الوجود وهذا الخالق مستحيل عليه أن يتصف بأي صفة من صفات هذا العالم فإن الله سبحانه وتعالى هو الأزلي الذي لا بداية له وهو الباقي بلا نهاية سبحانه وتعالى المنزه عن كل صفات المخلوقين نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا على الحق
وقد قال الله تعالى في سورة الأنبياء: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين} فالله سبحانه وتعالى خلق العالم لحكمة نسأل الله عزّ وجلّ أن يجعلنا من أُولي الألباب ثم أمر الله أن ينظروا في خلقه ليعتبروا به فيتفكروا في قدرته.
فقال سبحانه وتعالى:{ فارجع البصر هل ترى من فطور} أي كرر النظر إلى السماء وتأملها هل ترى فيها من فطور هل ترى فيها من صدوع أو عيب أو خلل لم تر.
كما قال الله عزّ جلّ في سورة ق: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيّنّاها وما لها من فروج} فمهما نظروا إليها فلم يجدوافيها شقوقًا لم يجدوا فيها فروجًا.
ثم قال الله عزّ وجلّ: {ثمّ ارجع البصر كرتين} أي مرة بعد مرة الإنسان إذا نظر في الشىء مرة قد لا يرى عيبه ما لم ينظر إليه مرة أخرى فقال الله عزّ وجلّ {ثم ارجع البصر كرتين} مرة بعد مرة فإنما أمر بالنظر مرة بعد مرة لأنه كما قلنا إذا نظر الإنسان في الشىء مرة قد لا يرى عيبه ما لم ينظر إليه مرة أخرى فأخبر الله تعالى أن الإنسان مهما كرر النظر إلى السماء لن يجد فيها شقوقًا.
{ينقلب إليك البصر خاسئًا وهو حسير} أي يرجع إليك بصرك خاسئًا أي صاغرًا ذليلا متابعدًا عن أن يرى في السماء عيوبًا أو شقوقا وهو حسير أي كبير يتعب من كثرة النظر ولا يجد فيها عيبًا.
ثم قال الله عزّ وجلّ: {ولقد زينّا الدنيا بمصابيح} السماء الدنيا في هذه السماء القريبة التي نراها هي التي يشاهدها الناس ومعنى بمصابيح أي بكواكب كالمصابيح في الإضاءة
ثم قال الله عزّ وجلّ: {وجعلناها رجومًا للشياطين}أي يُرجم الشياطين المسترقون للسمع بشهب تنفصل عن هذه الكواكب كما قال الله عزّ وجلّ في سورة الصافات: {إنّا زيّنّا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظًا من كل شيطان مارد}فإن الله عزّ وجلّ خلق الكواكب زينة للسماء وحفظًا من الشياطين فقال العلماء إن الله عزّ وجلّ خلق النجوم لثلاث خلقها زينة للسماء ورجومًا للشياطين وعلامات يهتدى بها كما قال الله عزّ وجلّ في سورة الأنعام:{وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر} وقد هيىء الله عزّ وجلّ للشياطين في الآخرة النار الموقدة فقال عزّ وجلّ: {وأعتدنا لهم عذاب السّعير وللذين كفروا بربّهم عذاب جهنّم} أي وأعتدنا للذين كفروا بالله من إنس وجنٍ عذاب جهنم نعوذ بالله منها {وبئس المصير} هذه الكلمة بئس هي كلمة ذم معناها بئس المرجع الذي ينتظرهم وهو عذاب النار نسأل الله السلامة.
{إذا القوا فيها سمعوا لها شهيقًا وهي تفور} أي إذا أُلقي الكفار في جهنّم إذا طرح الكفار في جهنم كما يطرح الحطب في النار كما يطرح الحطب في النار العظيمة هكذا يلقون في جهنم {سمعوا لها شهيقًا} سمعوا لنار جهنم صوتًا شديدًا الشهيق هو الصوت الذي يخرج من الجوف بشدة وذلك لشدة توقدها.
ومعنى {هي تفور} أي وهي تغلي بهم غليان المرجل بما فيه المرجل ما يسخن فيه الماء على النار.
ثم قال الله عزّ وجلّ في وصف جهنم {تكاد تميز من الغيظ}تكاد أي جهنم تميز أي تتقطع من شدة اغتياظها فشبهت بالمغتاظة على الكفار ومن العلماء من قال يخلق الله في نار جهنّم إدراكًا فتكاد تتقطع من شدة غضبها على الكفار.
كم قال الله عزّ وجلّ في سورة الفرقان: { إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا } وقال تعالى في سورة المعارج: {كلا إنّها لظى نزاعةً للشوى تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى} نسأل الله السلامة.
ثم قال الله عزّ وجلّ :{كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير} كلما ألقي في جهنم فوج من الكفار سألهم خزنتها أي الملائكة الموكلون بتعذيب الكفار في نار جهنم وهم مالك وأعوانه يسألونهم سؤال توبيخ ألم يأتكم نذير ألم يأتكم نذير ألم يأتكم ينذركم هذا اليوم الذي أنتم فيه.
{قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزّل الله من شىء إن أنتم إلا في ضلال كبير} فيعترف الكفار بأنهم جاءهم رسل أنذروهم خوفهم من عذاب الآخرة إن لم يؤمنوا بالله ورسله قالوا بلى قد جاءنا نذير واعترفوا بأنهم كذبوهم قالوا فكذبنا وقلنا ما نزّل الله من شىء قالوا للرسل الذين أُرسلوا إليهم الله ما أنزل عليكم شيئًا الله لم ينزل عليكم شيئًا من وعد ووعيد مما تتكلمون به وقال لهم أيضًا: {إن أنتم إلا في ضلال كبير} نسأل الله السلامة.
ويحتمل أن يكون قوله تعالى: {إن أنتم إلا في ضلال كبير} من كلام الملائكة أي يقولون للكفار وهم في النار {إن أنتم إلا في ضلال كبير} أي قد كنتم في الدنيا على ضلال كبير أي كنتم على الكفر والعياذ بالله
وقد قال الله عزّ وجلّ في سورة الزمر { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءايَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
{وقالوا لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السّعير} أي وقال الكفار أيضًا وهم في النّار لخزنة جهنّم لو كنّا في الدّنيا نسمع من الرسل ما جاءوا به من الحق سماع طالب للحق أو نعقل عقل متأمل ومفكر بما جاء به الرسل {ما كنا في أصحاب السّعير} أي ما كنا في أهل النار.
{فاعترفوا بذنبهم فسحقًا لأصحاب السعير} أي اعترف الكفار بذنبهم ولكن لا ينفعهم هذا الاعتراف {فسحقًا} أي بُعدًا لأصحاب السعير بُعدًا للكفار عن رحمة الله وليعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر وعيد الكفار أتبعه بوعد المؤمنين فقال: {إنّ الذين يخشون ربّهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير} {إنّ الذين يخشون ربهم} يخافون الله عزّ وجلّ بالغيب وهم لا يُعينون أمر الآخرة ولا يُعينون أهوالها هم لا يرون الجنة ولا يرون النار يخافون الله عزّ وجلّ ويؤمنون بما أنزله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هؤلاء لهم مغفرة من الله وأجر كبير وهذا الأجر الكبير هو الجنة.
لقد قال الله عزّ وجلّ في سورة ق: {وأُزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أوّاب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد}.
الله يجعلنا جمعيًا من هؤلاء والحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على سيدنا محمد والله أعلم وأحكم.