fbpx

تفسير سورة القلم – الجزء 2

شارك هذا الدرس مع أحبائك

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين. سنكمل إن شاء الله تعالى في تفسير سورة القلم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إنّا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنّة إذ أقسموا ليصرمنّها مصبحين} أصحاب الجنّة أي أصحاب البستان والمراد هنا بستان في الأرض فالجنة البستان من الشجر والنخل المتكاتف هذا التركيب من الجيم والنون والنون هو دائر على معنى الستر فسميت الجنة جنة لاستتار أرضها بالأشجار كذلك الجن سموا بذلك لاستتارهم عن أعيننا ففي لفظ الجن نجد الجيم والنون والنون كذلك الجنين في بطن أمه سُمي بذلك لاستتاره فنجد في لفظ الجنين الجيم والنون والنون وهكذا فإذًا هذا التركيب من الجيم والنون والنون هو دائر على معنى الستر وكذلك المجنون سُمي مجنونًا لاستتار عقله فنجد في كلمة الجنون الجيم والنون والنون أيضًا. فهذه الكلمات اشتقت من مادة واحدة مع اختلاف معانيها وسميت دار الثواب للمؤمنين في الآخرة جنة لما فيها من الجنان. وأما قصة أصحاب البستان فإن أهل التفسير ذكروا أن رجلا كان بناحية اليمن له بستان وكان مؤمنًا وذلك بعد سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام وكان هذا الرجل عند الحصاد يجعل نصيبًا للفقراء والمساكين كان يؤدي الزكاة بل وكان يزيد على الزكاة فلما مات هذا الأب ورثه بنوه وقالوا والله إن المال لقليل وإن العيال لكثير وإنما كان أبونا يفعل هذا الأمر إذ كان المال كثيرًا والعيال قليلا وأما إذا قل المال وكثر العيال فإنّا لا نستطيع أن نفعل هذا فعزموا فيما بينهم أن يمنعوا الزكاة وأن يخرجوا صباحًا ليقطعوا ثمر البستان قبل أن يعلم الفقراء بذلك فحين وصلوا إلى بستانهم وجدوه قد احترق. فقال الله عزّ وجل: {إنّا بلوناهم} أي بلونا أهل مكة وامتحانهم واختبرناهم والمعنى أعطيناهم أموالا ليشكروا لا ليبطروا فلما بطروا وعادوا محمدًا صلى الله عليه وسلم ابتليناهم بالجوع والقحط كما بلونا أصحاب الجنة أي كما امتحنا أصحاب الجنة أي أصحاب البستان كما قلنا. ومعنى {إذ أقسموا} إذ حلفوا فيما بينهم ليصرمنها مصبحين ليقطعن ثمرها وقت الصباح حتى لا يشعر بهم المساكين لأنهم لا يريدون أن يُعطوا الفقراء الزكاة. ثم قال الله عزّ وجلّ: {ولا يستثنون} أي ولا يقولون إن شاء الله ولا يستثنون يعني لا يقولون إن شاء الله وسُمي قول إن شاء الله استثنائًا لأنه يؤدي مؤدى الاستثناء من حيث إنّ معنى قولك لأخرجن إن شاء الله ولا أخرج إلا إن يشاء الله واحد مثلا إذا قلت سأذهب غدًا إن شاء الله إلى زيد وهو بمعنى قولك لن أذهب إلى زيد غدًا إلا أن يشاء الله لذلك يُسمى قول إن شاء الله استثنائًا ولهذا فُسر قوله تعالى: {ولا يستثنون} ولا يقولون إن شاء الله. {فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون} طاف عليها أي على جنتهم أي على بستانهم طائف من ربّك أي طارق من ربّك من أمر الله عزّ وجلّ أي بعث الله على البستان نارًا فاحترق فصار أسود وهم نائمون لا يعلمون بما حصل فاصبحت كالصريم أي أصبحت جنتهم كالليل الأسود {فتنادوا مصبحين} أي دعا بعضهم بعضًا إلى المضي إلى معادهم لما أصبحوا { أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ} أي باكروا بالخروج وقت الغداه على الثمار والزرع إن كنتم قاطعين ثماركم {فانطلقوا وهم يتخافتون} مضوا وذهبوا إلى حرثهم وهم يخفون كلامهم يسرونه لئلا يعلم بهم أحد من الفقراء والمساكين {أن لا يدخلنّها عليكم مسكين} أي يتخافتون ويقولون لا يدخلنّها أي الجنة لا يدخلنّها اليوم عليكم مسكين أي لا تمكنوهم من الدخول فيدخلوا {وغدوا على حرد قادرين} أي ساروا إلى جنتهم غدوة على أمر قد قصدوه واعتمدوه واستسروه بينهم وهم يظنون في أنفسهم القدرة على صرمها على قطع ثمارها وأنهم تمكنوا من مرادهم ويحتمل أن يكون معنى قادرين من التقدير بمعنى التضييق كلمة قَدَرَ تأتي بمعنى ضيق كما قال الله عزّ وجلّ {فقدر عليه رزقه} أي ضيق عليه رزقه فيحتمل أن يكون المعنى مضيقين على المساكين إذ حرموهم ما كان أبوهم يعطيهم من الزكاة {فلمّا رأوه قالوا إنّا لضّالّون} أي فلما رأوا بستانهم لم يعرفوه ظنوا أنهم ضلوا الطريق فقالوا إنّا لضالّون أي لمخطئون الطريق إلى جنتنا وليست هذه جنتنا لكن بعد ذلك وضح لهم تبين لهم أنها أصابها من عذاب الله ما أذهب خيرها {بل نحن محرمون} أي تبين لهم أنهم حُرموا بسبب قصدهم منع الزكاة {قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبّحون} قال لهم أوسطهم أي أعدلهم وأفضلهم قولا وأرجحهم عقلا ألم أقل لكم هلّا تقولون سبحان الله هلّا شكرتم الله على ما أعطاكم ولم تعزموا على منع الزكاة فقد أنّبهم أخوهم ووبخهم على تركهم ما حضّهم عليه من تسبيح الله أي ذكر الله وتنزيه عن السوء لكن هم عزموا على منع الزكاة فابتلاهم الله ولما أنّبهم أخوهم رجعوا إلى ذكر الله واعترفوا على أنفسهم بالظلم لأنهم منعوا الزكاة وبادروا إلى تسبيح الله عزّ وجلّ {قالوا سبحان ربنا إنّا كنّا ظالمين} أي نزَّهوا الله عن يكون ظالما فيما فعل وقالوا نستغفر الله من ذنبنا ومعنى {إنّا كنّا ظالمين} أي إنّا كنّا ظالمين لأنفسنا حيث منعنا الفقراء من الزكاة { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ} أي يلوم بعضهم بعضًا { قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} قالوا يا هالكنا إنّا كنّا مخالفين أمر الله في منعنا الزكاة ثم سألوا الله عزّ وجلّ أن يبدلوهم خيرًا من تلك الجنة فقالوا عسى ربّنا أن يبدلنا الله خيرًا منها أي من هذه الجنة {إنّا إلى ربّنا راغبون} أي طالبون من الله أن يبدلنا من جنتنا إذ هلكت خيرًا منها. ثم قال الله عزّ وجلّ : {كذلك العذاب} أي عذاب الدنيا الذي بلونا به أصحاب البستان من إهلاك ما عندهم إذ أصبحت جنتهم أي بستانهم كالصريم كالليل الأسود {ولعذاب الآخرة أكبر} يعني عقوبة الآخرة إن عقوبة الآخرة لمن عصى الله وكفر به أكبر يوم القيامة من العقوبة في الدنيا {لو كانوا يعلمون} أي لو كان هؤلاء المشركون يعلمون إن عقوبة الله لأهل الشرك به أكبر من عقوبته لهم في الدنيا لارتدعوا وتابوا وأنابوا واتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم. نسأل الله عزّ وجل أن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم.