بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين
سنكمل إن شاء الله تعالى في تفسير سورة القلم أخبر الله عزّ وجلّ في هذه السورة بما أعدّ للمتقين فقال:{إنّ للمتقين عند ربّهم جنّات النّعيم} إنّ للمتقين للمؤمنين بالله ورسوله المجتنبين للشرك وسائر أنواع الكفر عند ربّهم في الآخرة جنّات النّعيم النّعيم الدائم الذي لا يزول الذي لا يشوبه ما ينغصه أهل الجنّة حين يدخلون الجنة يقولون كما أخبر الله عزّ وجلّ في القرءان الكريم:{وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنّا الحَزَن} نسأل الله عزّ وجلّ أن يجمعنا جميعًا في الجنة.
والتقي هو الذي أدى ما فرضه الله عزّ وجلّ عليه واجتنب ما حرم الله {إن للمتقين عند ربّهم جنّات النّعيم} حين سمع مشركو مكة ذلك قالوا على زعمهم إنّا لنعطى في الآخرة أفضل مما تعطون صاروا يقولون للمؤمنين نحن أيضًا ندخل الجنة بل نحن نُعطى أفضل مما تعطون في الآخرة على زعمهم هذا لا يكون فقال الله عزّ وجلّ تكذيبًا لهم: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} أي لا يستوي عند الله الذين ءامنوا بربهم واتبعوا محمّدًا صلى الله عليه وسلم لا يستوي هؤلاء والكافرون هذا استفهام فيه توقيف على خطأ ما قالوا وتوبيخ وتقريع للكفار {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} أي لا نجعل المسلمين كالمجرمين فكان مشركو مكة حين يسمعون الآيات التي فيها الإخبار عن نعيم المؤمنين في الآخرة في الجنة يستهزئون وكانوا يقولون استهزاءًا إن دخل هؤلاء يعنون المؤمنين الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم هكذا كان يتكلم كفار مكة فرد الله عزّ وجلّ عليهم في القرءان لننظر معًا في سورة المعارج بماذا ردّ الله عزّ وجلّ عليهم قال تعالى في سورة المعارج: {أيطمع كلّ امرئ منهم أن يدخل جنّةَ نّعيم} أيطمع كل واحد من هؤلاء الكفار أن يدخل الجنّة التي أعدها الله للمؤمنين في الآخرة كما يدخلها المؤمنون { كلا} أي هذا ردع لهم عن طمعهم في دخولهم الجنة مع كفرهم لا يدخلون الجنة وهم على الكفر الذي هم عليه {إنّا خلقناهم مما يعلمون} هم يعلمون من أي شىء خلقوا خلقوا من الذي خلق منه سائر الناس معناه إنّا خلقناه من نطفة كما خلق بني ءادم كلهم ومن حكمنا أن لا يدخل أحد الجنة إلا بالإيمان فبما يطمع هؤلاء أن يدخلوها وهم لا يؤمنون بالله ورسوله فلا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنّة لا يستوي المؤمنون والكافرون وقد قال عزّ وجلّ في سورة فاطر: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاء وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} فالله عزّ وجلّ بين في هذه السورة بقوله سبحانه وتعالى:{وما يستوي الأعمى والبصير} هذا مثل للكافر والمؤمن أي لا يستوي الكافر والمؤمن {ولا الظلمات ولا النور} لا يستوي الكفر والإيمان ثم قال الله عزّ وجلّ: {ولا الظل ولا الحرور} الحرور المراد به الريح الحارة فلا يستوي الحق والباطل ولا تستوي الجنة والنّار وقال عزّ وجلّ: {وما يستوي الأحياء والأموات} لا يستوي الذين دخلوا في دين الإسلام والذين لم يدخلوا فيه ثم قال الله عزّ وجلّ: {إن الله يُسمع من يشاء} أي إن الله عزّ وجلّ يهدي من يشاء سبحانه وتعالى وأمّا قوله عزّ وجل: {وما أنت بسمع من في القبور} شبه الله عزّ وجلّ الكفار الذين لم يشأ لهم الهداية بالموتى وبيّن الله عزّ وجلّ أنّ الكفار الذين لم يشأ الله لهم الإيمان لم ينتفعوا بكلام النبي محمد صلى الله عليه وسلم إنّك لا تسمع الكفار سماع انتفاع بكلامك هؤلاء الذين لم يشأ الله لهم الإيمان لا ينتفعون بكلامه صلى الله عليه وسلم كما لا ينتفع أصحاب القبور المشركون بكلام الحي فالمقصود نفي الانتفاع ليس نفي حقيقة السماع ثم وبخ الله كفار مكة فقال: {ما لكم كيف تحكمون} أي أيُّ شىء لكم فيما تزعمون وهذا استفهام إنكار عليهم كيف تحكمون هذا الحكم هذا استفهام آخر أيضًا على سبيل الإنكار عليهم كيف تحكمون هذا الحكم الفاسد كأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم ثم قال الله عزّ وجلّ: { أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا يَتَخَيَّرُونَ} أي لكم أيّها القوم بتسويتكم بين المسلمين والمجرمين في الجزاء والمنزلة كتاب أنزله الله عزّ وجلّ عليكم فيه ما تدّعونه من هذا الحكم الذي زعمتموه معناه لم يُنزل الله عزّ وجلّ عليكم كتابًا فيه هذا الحكم الذي تزعمونه.
{ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} كذلك هذه الآية المراد بها الإنكار عليهم أي الكم أقسام وعهود ومواثيق عهدناكم عليها فاستوثقتم بها منها لا تنقطع تلك الأيمان والعهود إلى يوم القيامة فيها هذا الحكم الذي تحكمونه فيها هذا الذي تزعمونه والمراد ليس لكم على الله عهود استوثقتم بها في أن يدخلكم الجنة.
ثم قال الله عزّ وجلّ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {سلهم أيُّهم بذلك زعيم} أي سلهم يا محمد أيّهم بذلك زعيم أيّهم كفيل ضامن بأنّ لهم في الآخرة ما للمسلمين من الخير والمعنى لا أحد يضمن لهم ذلك. ثم قال الله عزّ وجلّ: {أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين} أي الهم ناس يشاركونهم في قولهم هذا وهو التسوية بين المسلمين والمجرمين أي بين المسلمين والكافرين وأن لهم ما للمسلمين من الخير في الآخرة على زعمهم.
فليأتوا بشركائهم فليأتوا بشركائهم ليشهدوا على ما زعموا إن كانوا صادقين في دعواهم فهذا أمر معناه التعجيز أي لا أحد يقول بقولهم كما أنه لا كتاب لهم ولا عهد من الله ولا زعيم لهم يضمن لهم من الله بهذا ثم إن الله عزّ وجلّ تعالى لما أبطل قول المشركين وبيّن أنه لا وجه لصحته أصلا أخبر عن عظمة يوم القيامة فقال: {يوم يكشف عن ساق} أي يوم القيامة يكشف عن شدة فقول الله عزّ وجلّ: {يكشف عن ساق} هو عبارة عن شدة الأمر يوم القيامة للحساب والجزاء يقال في لغة العرب: “كشفت الحرب عن ساق” إذا اشتد الأمر فيها هذا المعنى ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما فقال في تفسير هذه الآية:{ يوم يكشف عن ساق} أي عن شدة من الأمر وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: “هو يوم كرب وشدة” أما أهل الباطل والمشبّه فإنهم قالوا والعياذ بالله إن لله جارحة إن لله ساقًا جارحة يكشفها يوم القيامة تعالى الله عن ذلك الله عزّ وجل منزه عن صفات المخلوقين وقد قال الإمام أبو جعفر الطحاوي السلفي رحمه الله تعالى رحمه واسعة: “تعالى يعني الله عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات” فمعنى يوم يكشف عن ساق يوم يشتد الأمر ويصعب وأما من شبه الله بخلقه فذلك لضيق عطمه وقلة نظره في علم البيان فقد ورد لفظ الساق أيضًا في سورة القيامة {والتفت الساق بالساق} أي شدة فراق الدنيا بشدة أقبال الاخرة على أن الساق مثل في الشدة فعن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قول الله عزّ وجلّ: {والتفت الساق بالساق} قال هما همّان هم الأهل والولد وهم القدوم على الواحد الصمد.
ثم قال الله عزّ وجلّ: {ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون} أي إن الكفار يوم القيامة يدعون إلى السجود فلا يستطيعون ذلك وهذا الدعاء إلى السجود ليس على سبيل التكليف بل هو على سبيل التقريع والتوبيخ {خاشعة أبصارهم ترهقهم ذِلة} أبصار الكفار تكون ذليلة يوم القيامة كما قال الله عزّ وجلّ: {خاشعة أبصارهم} تكون ذليلة وخاضعة يغشاهم الهوان والذل يوم القيامة نسأل الله السلامة.
{وقد كانوا يُدعون إلى السجود وهم سالمون} أي كانوا يدعون في الدنيا إلى السجود كانوا يدعون إلى الإيمان والسجود لله عزّ وجلّ لكنهم ما كانوا يقبلون ومعنى {وهم سالمون} أي وهم معافون أصحاء ثم قال الله عز وجلّ: {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث} والمعنى كِل يا محمد أمر هؤلاء المكذّبين بالقرءان إليّ أكفك أمرهم أي حسبك في الإنتقام منهم أن تكِل أمرهم إليّ فإن الله عزّ وجلّ عالم بهم وعالم بما يستحقون من العذاب وهذا وعيد شديد لمن يكذب بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} سنستدرجهم والمعنى أن الله عزّ وجلّ يُنيهم من العذاب درجة درجة حتى يوقعهم فيه من حيث لا يعلمون واستدراج الله تعالى الكافرين أن يرزقهم الصحة أن يرزقهم المال أن يرزقهم الولد أن يفتح عليهم بابًا من النعمة يغتبضون به ويركنون إليه وهم يحسبونه تفضيلا لهم على المؤمنين وهو في الحقيقة سبب لإهلاكهم فإن العبد إذا كان بحيث كلما ازداد ذنبًا جدد الله له نعمة وأنساه التوبة والاستغفار كان ذلك من الله استدراج بحيث لا يشعر العبد أنه استدراج ثم قال الله عزّ وجلّ: {وأُملي لهم إنّ كيدي متين} وأُملي لهم أي أمهلهم وأطيل لهم المدة إنّ كيدي متين أي إن عذابي لقوي شديد وقد قال الله عزّ وجلّ في سورة آل عمران {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين} معناه لا يحسبن الذين كفروا إملائنا خيرٌ لأنفسهم الإملاء لهم إمهالهم وإطالة عمرهم أنّما نملي لهم ليزدادوا إثما وهذا معنى الاستدراج الذي ذكرناه وقال الله عزّ وجلّ: {ولهم عذاب مهين} فهم مهانون في الآخرة فهذه الآية فيها رد على المعتزلة الذين يقولون يجب على الله أن يفعل ما هو الأصلح للعباد ونقول إن الله عزّ وجلّ لا يجب عليه شىء الله عزّ وجلّ لا يُسأل عما يفعل الله عزّ وجل فعال لما يريد نسأل الله عزّ وجلّ السلامة.
ثم قال الله عزّ وجلّ:{أم تسألهم أجرًا فهم من مغرم مثقلون}
معناه أنت لست تطلب منهم أجرًا يا محمد على تبليغ الوحي فيثقل عليهم ذلك فيمتنع عن الدخول في الذي تدعوهم إليه من الدين فهذا الاستفهام بمعنى النفي {أم عندهم الغيب فهم يكتبون} هذا أيضًا استفهام على سبيل الانكار
الغيب المراد به هنا اللوح المحفوظ معناه ليس عندهم اللوح المحفوظ الذي فيه الغيب يكتبون منه ما يزعمونه.
ثم قال الله عزّ وجلّ: {فاصبر لحكم ربّك} الخطاب هنا لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فاصبر لحكم ربّك أي لقضاء ربّك الذي هو آت وأمض لما أمرك به ربّك عزّ وجلّ {ولا تكن كصحاب الحوت إذ نادى وهو مكظوم} من هو صاحب الحوت وما هي قصته هذا ما سنتكلم فيه إن شاء الله عزّ وجلّ في الدرس القادم والله عزّ وجلّ أعلم وأحكم.