fbpx

تفسير سورة الحاقة – الجزء 3

شارك هذا الدرس مع أحبائك

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين و صلى الله على سيدنا محمد و على آله وصحبه الطيبين الطاهرين ، سنكمل ان شاء الله تعالى في تفسير {سورة الحاقة} بعد أن ذكَرَ الله عز وجل حال المؤمنين و أن المؤمن يعطى الكتاب بيمينه يوم القيامة ، ذكَرَ الله حال الكافرين فقال ” وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ ( ٢٥) ” هذا الكافر يُعطى كتابه يوم القيامة بشماله ، ” فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ( ٢٥) “يتمنى أنه لم يُعط هذا الكتاب لما يرى فيه من قبائح أعماله فترى المجرمين مُشفقين مما فيه خائفين مما يَرون من صحائف أعمالهم من الأعمال القبيحة التي كانوا يفعلونها في الدنيا من الكُفرِ و المعاصي و العياذ بالله ” فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (٢٥)” ” وَ لَم أدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (٢٦) ” يتمنى لو لم يدر هذا الحساب الذي يراه يوم القيامة فإن الكافر لا نصيب له في الآخرة و لا ثواب له فيها ، ” يَا لَيْتَهَا كَانَتِ القَاضِيَةَ (٢٧) ” أي يقول الكافر يوم القيامة ( يا ليت الموتة التي مِتُها في الدنيا كانت القاضية) أي القاطعة للحياة و لم أُحيا بعدها و لم أُبعث و أُعذَب ، ” مَا أَغْنَى عَنِّى مَالِيَهْ (٢٨) ” أي يقول الكافر يوم القيامة( لم يدفَع عني مالي شيئًا من العذاب). هذا المال الذي كان يملكه في الدنيا لا ينفعه يوم القيامة لا يدفع عنه شيئًا من عذاب الله ، ” هَلَكَ عَنِى سُلْطَانِيَهْ ( ٢٩) ” أي يقول الكافر يوم القيامة “هَلَكَ عَنِى سُلْطَانِيَهْ ( ٢٩) ” أي زال عني مُلكي و قوتي ) و لا يكون له بيِنَة و لا يكون له حُجَةٌ يوم القيامة الأرض تَشهَدُ عليه و جوارحه تشهَدُ عليه ، نسأل الله السلامة ، ثم يأمر الله ملائكة العذاب “خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ” أي خذوا هذا الكافر و غلوه اجمعوا يديه إلى عُنُقِهِ مقيداً بالأغلال ، ” ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ” أي أدخلوه النار المُحرِقة و اغمروه فيها ، “ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (٣٢) ” أي أدخلوه في سلسلة طولها سبعون ذراعا قياسها و مقدرا طولها سبعون ذراعا و الله أعلم بأي ذراعٍ هي ، ثم ذَكَرَ الله عز وجل سبب عذاب الكافر فقال :” إِنَهُ كَانَ لا يُؤمِنُ بالله العَظِيم (٣٣) ” كان لا يؤمن بالله و لا يُصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كافراً و العياذ بالله و الله عز وجل أمَرَ عباده بالإيمان و أفضل الأعمال هو الإيمان بالله و رسوله صلى الله عليه وسلم فسبب عذاب هذا الكافر كما أخبَرَ الله عز وجل :” إِنَهُ كَانَ لا يُؤمِنُ بالله العَظِيم (٣٣) ” و الله عظيمٌ ، عظيمُ الشأن منزه عن صفات الأجسام فالله تعالى أعظم قدراً من كل عظيم ، ” وَ لَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ (٣٤) ” أي كان هذا الكافر في الدنيا لا يحُضُ ، لا يحُثُ غيره و لا يحثُ نفسه على إطعام المسكين و قال العلماء دلت هذه الآية أن الكفار مُخاطبون بفروع الشريعة على معنى أنهم يُعاقبون في الآخرة على ترك الصلاة و ترك الزكاة و نحو ذلك… و يُعاقبون أيضًا على عدم الانتهاء عن الفواحش و المُنكرات لا على معنى أنهم يُطالبون بأداء العبادات حال كفرهم في الدنيا ، فالعِبادة لا تصح من الكافر كانوا مأمورين في الدنيا أن يؤمنوا و أن يصلوا ، أن يؤمنوا و أن يؤدوا الواجبات و يجتنبوا المحرمات ما سلككم في صقر قالوا لم نك من المصلين و لم نك نطعم المسكين و كنا نخوض مع الخائضين و كنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين ، أي ماتوا على الكفر و العياذ بالله و كانوا لا يفعلون كل هذه الأعمال فدلت الآية هذه على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أي يُعذبون أيضًا على ترك الصلاة و غيرها من العبادات. ثم قال الله عز وجل:” فَلَيْسَ اليَومَ هَاهُنَا حَمِيم ( ٣٥) ” أي ليس للكافر يوم القيامة حميم قريب يدفع عنه عذاب الله تعالى و لا من يشفع له و لا من يغيثه لا أحد ينفعه يوم القيامة ، ” وَ لَا طَعَامٌ إِلَا مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) ” أي ليس له طعام ينتفع به إلا من غسلين ، الغسلين هو ما يسيل من أبدان الكفار من الدم و الصديد ، الصديد هو الدم المختلط بماء من الجرح و نحو ذلك… و من العلماء من فسر الغسلين بشجر يأكله أهل النار نعوذ بالله من ذلك ، ” لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الخَاطِئُونَ (٣٧) ” أي لا يأكل هذا الطعام إلا الكافرون. ثم قال الله عز وجل:” فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (٣٨) وَ مَا لَا تُبْصِرُونَ (٣٩) ” أي أقسم بما ترونه وبما لا ترونه و جواب هذا القسم :” إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) ” ( إِنَّهُ) يعني القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) و هو محمد صلى الله عليه وسلم و من العلماء من قال :” هو جبريل ” هذا في {سورة الحاقة} هذه الآية ” إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) ” تجدونها في {سورة الحاقة} و في {سورة التكوير} ، في سورة التكوير أجمع المفسرون على أن المُراد بالرسول جبريل عليه السلام لأن الله عز وجل قال بعد “إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ” في {سورة التكوير} ” ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى العَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) ” و هذه من صفات جبريل عليه السلام لذلك أجمع المفسرون على أن المراد بالرسول في {سورة التكوير} هو جبريل عليه السلام و في هذه السورة ، {سورة الحاقة} أكثر المفسرين على أن الرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى قال بعده :” وَ مَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤمِنُونَ (٤١) وَ مَا هُوَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٤٢) ” و كفار قريش ما كانوا يصفون جبريل بالشعر و الكهانة بل كانوا يصفون محمدً صلى الله عليه وسلم بهذين الوصفين لذلك أكثر المفسرين على أن الرسول هنا في {سورة الحاقة} هو محمد صلى الله عليه وسلم و أما في {سورة التكوير} فإن الرسول الكريم هو جبريل عليه السلام لأن الله عز وجل قال بعد قوله :” إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ” في {سورة التكوير} ، ” ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى العَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) ” و هذه من صفات جبريل عليه السلام . ثم قال الله عز وجل في {سورة الحاقة} ” وَ مَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ” يعني هذا القرآن ليس بقول شاعر كما تدعون و لا هو من ضروب الشعر و لا تركيبه ، ” قَلِيلًا مَا تُؤمِنُونَ ” أي لا تؤمنون بالمرة أراد بالقليل عدم إيمانهم أصلا و المعنى أنكم لا تصدقون بالقرآن لا تصدقون أنه من عند الله عز وجل ، فالمراد بالقليل هنا العدم فإن العرب تقول قلَّ ما يأتينا يُريدون ( لا يأتينا) . ثم قال الله عز وجل:” وَ لا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٤٢) ” أي ليس القرآن بقول رجلٍ كاهنٍ كما تدَّعون و لا هو من جنس الكهانة لأن محمد صلى الله عليه وسلم ليس بكاهن ، فالكاهن من تأتيه الشياطين و يلقون إليه ما يسمعون من أخبار فيخبر الناس بما سمعه منهم و أما طريقه عليه الصلاة والسلام فإنها منافية لطريق الكاهن فإنما يتلوه عليه الصلاة والسلام من الكلام مشتمل على ذم الشياطين و مشتمل على اتخاذ الشيطان عدوا كيف يكون كاهنا، فالقرآن تنزيل من رب العالمين هذا اللفظ الذي نقرأه نزل به جبريل عليه السلام أخذه من اللوح المحفوظ و هو ليس من تركيب جبريل و لا من تركيب محمد صلى الله عليه وسلم إنما هو عبارة عن كلام الله الأزلي كلام الله الذي ليس حرفًا و لا صوتًا و لا لغةً عربية و لا غيرها من اللغات ، القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ أمر الله عز وجل القلم فكتب القرآن في اللوح المحفوظ كما كتب غير القرآن ثم أمر الله عز وجل جبريل عليه السلام فأخذ القرآن من اللوح المحفوظ و هو ليس من تأليف ملك و لا بشر و أنزله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم متفرقًا فهذا اللفظ الذي نقرأه يدل على كلام الله الذاتي الأزلي الذي ليس حرفاً و لا صوتًا ، فقال الله عز وجل :” تَنزِيلٌ مِنْ رَبِ العَالَمِينَ (٤٣) ” أي أن القرآنَ تنزيلٌ من رب العالمين و ذلك أنه لما قال :” إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠)” أتبعه بقوله ” تَنزِيلٌ مِنْ رَبِ العَالَمِينَ (٤٣) ” ليزول هذا الإشكال حتى لا يُظَنَ أن هذا التركيب تركيب جبريل بل إن القرآن نزل به جبريل عليه السلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بأمرٍ من الله عز وجل و كما قلنا هذا القرآن يدل على كلام الله الذاتي الأزلي الذي ليس حرفًا و لا صوتًا ، و ليعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول على الله كلامًا باطلًا ، لا يدّعي قولًا باطلاً على الله عز وجل ، لا يَتَكَلَفُ محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول على الله عز وجل ما لم يقله من الأقاويل الباطلة فالله عز وجل أكد ذلك بقوله سبحانه وتعالى:” وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (٤٤) ” أي لو تكلف محمدٌ أن يقول علينا ما لم نَقُلهُ مِن الأقاويل الباطلة ” لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِينِ (٤٥)” أي لأخذناه بالقوة و القدرة و انتقمنا منه باليمين أي بالحق و النبي صلى الله عليه وسلم لا يَتَقَوَلُ على الله مستحيل على النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك فهذه الآية فيها التأكيد على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمينٌ فيما يُبَلِغُهُ عن الله عز وجل و ما هو على الغَيبِ بظنين أي ليس مُتَهَما . ” ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) ” (الوتين) هو نياط القلب هو عرقٌ يتعلق به القلب يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب هذا الوتين إذا انقطع مات صاحبه ، فالمعنى لو تقول علينا لأذهبنا حياته معجلًا، و أعيد و أكرر هذه الآيات تأكد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مُتَقَوِلاً على الله ، لم يكن يقول كلامًا باطلاً و يقول هذا هو قول الله بل كان صلى الله عليه وسلم صادقًا أمينًا فيما يُبلغهُ عن الله عز وجل. ثم قال الله عز وجل:” فَمَا مِنْكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (٤٧) ” أي ليس منكم أحدٌ يحجزنا عنه فمعنى الكلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتكلف الكذب لأجلكم مع علمه أنه لو تكلف ذلك لعاقبناه ثم لم يقدر على دفع عقوبتنا عنه أحد و بيان هذا المعنى أيضًا نجده في {سورة الأحقاف} في الآية الثامنة في قول الله عز وجل:” أَمْ يَقُلُونَ اِفْتَرَاهُ” يقول كفار قريش :” إن محمدًا افترى هذا القرآن ” ، يقول كفار قريش:” إن محمدًا يدّعي كذبًا أن هذا الذي يتلوه تنزيل من رب العالمين ” ، فقال الله عز وجل في {سورة الأحقاف} :” أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لي من الله شَيْئًا ” أم يقولون افتراه أي يقولون اختلقه محمدٌ و أضافه إلى الله كذبا . ماذا قال الله عز وجل ؟ – ” قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ ” أي قُل يا محمد إن افتريته عاجلني الله بعقوبة الافتراء عليه فلا تقدرون على كفه من معاجلتي و لا تطيقون على دفع شيء من عقابه ، فكيف افتريه و أتعرض لعقابه؟ فدلت الآيات على صدقه عليه الصلاة والسلام . ثم قال الله عز وجل:” وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (٤٨)” يعني القرآن هو تذكرة هوعظة للذين يتقون الله عز وجل ، للذين يخافون العقاب. ثم قال الله عز وجل:” وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُم مُّكَذِّبِينَ (٤٩) ” فالله لا يَخفى عليه شيء يعلم الصادقين و يعلم المكذبين و هذا وعيدٌ لمن كذب القرآن ، “وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (٥٠) ” أي إن القرآن لحسرةٌ و ندامةٌ على الكافرين يوم القيامة و المعنى أنهم حين يرَوْنَ ثواب من آمن بالقرآن و اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم يندمون على كفرهم ، ” وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) ” أي إن القرآن لحق اليقين لا شك فيه أنه من عند الله ليس من تأليف محمد و لا جبريل عليهما السلام و فيه الحق و الهُدى و النور فهو عين اليقين و محض اليقين لا بطلان فيه ، ” فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيم (٥٢) ” أي نَزِه رَبَكَ عز وجل عن كل النقائص نزهه سبحانه وتعالى عن السوء نزهه عن مشابهة المخلوقين ، بهذه الآية خُتِمَت هذه السورة هناك سورة أخرى أيضًا خُتِمَت بهذه الآية و هي {سورة الواقعة} فإنها أيضًا خُتِمَت بقول الله عز وجل:” فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيم ” هذه {سورة الحاقة}. و السورة التي بعدها التي سنتكلم في تفسيرها ان شاء الله تعالى هي {سورة المعارج} ” سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (١)” من هو الذي سأل؟ و ماذا نزل فيه ؟ هذا ما سنتكلم فيه ان شاء الله تعالى في درسنا القادم ، و الله أعلَمُ و أحكَم.