بسم الله الرحمٰن الرحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين وصلّى الله على سيّدِنا مُحمد وعلى آلِه وصحبِه الطّيِّبينَ الطَّاهرين.
سنُكملُ إن شاءَ اللهُ تعالى في تفسيرِ سورةِ المعارِج.
كان مشركو مكة يأتونَ جماعاتٍ جماعات، يجلِسونَ حولَ النَّبي صلى الله عليه وسلم، يجلِسونَ فِرَقًا فِرَقًا يَستَمعونَ لِما يقولُه عليه الصلاةُ والسَّلام، و يَستَهزِؤونَ والعياذُ باللهِ بالقرآن. فقالَ اللهُ عزَّ وجلّ:﴿فَمالِ الذين كَفَروا قِبَلَكَ مُهْطِعِين﴾.
“فمالِ الذين كَفروا”: أي فما بالُ هؤلاء، ما بالُ هؤلاءِ الذين كَفروا. “قِبَلَكَ”: أي نحوكَ يا مُحمَّد. ” مُهْطِعِين”: أي مُسرعين، معناه يُسرِعونَ نحوكَ يا محمّد، مُسرِعونَ في التَّكذيب، ويُسرِعونَ إلى السَّماعِ منه لِيستَهزؤوا بما يقول والعياذُ بالله. فقد وبّخَهم اللهُ عزَّ وجلَّ بقوله:﴿فمالِ الذين كفروا قِبَلَكَ مُهْطِعِين﴾.
﴿عَنِ اليَمينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزينَ﴾ أي عن يمينِ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم وعن شمالِه عِزين أي مُتفرِّقينَ حَلَقًا ومجالِس جماعةً جماعة، مُعرِضينَ عنه عليه الصلاةُ والسلام، وكانوا يستَهزؤون بكلامِه عليه الصلاةُ والسلام، وكانوا يقولونَ إذا دخلَ هؤلاءِ الجنَّةَ كما يقولُ محمّد فلَنَدْخُلَنَّها قَبلَهُم، فردَّ اللهُ عزَّ وجلَّ عليهم وقال:﴿أَيَطْمَعُ كُلُّ اٌمرئ منهم أن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيم﴾، أي أيَطمعُ كلُّ رَجلٍ من هؤلاءِ الكفَّار أن يَدخُل الجنَّةَ مع كُفرِه كما يَدخُلها المسلمون. قالَ اللهُ عزَّ وجلّ:﴿كلّا إنَّا خَلَقْنٰهُم ممَّا يَعْلَمون﴾. “كلّا” ردٌّ وردعٌ لطَماعِيَتِهم، والمعنى لا يَدخلونَ الجنَّة، لا يَدخلونَها مع كُفرِهم. ” إنَّا خَلَقنٰهم ممَّا يَعلَمون” أي أنّهم يَعلمونَ أنَّهم مخلوقونَ مِن نُطفَة ثُمَّ مِن عَلقَة ثُمَّ من مُضْغَة كما خُلِق سائِرُ جِنسِهم كما خُلِقَ البشر، ومِن حكمِ اللهِ عزَّ وجلّ أنَّ هؤلاءِ الكفار لا يَدخلونَ الجنَّةَ مع كُفرهم، فكيفَ يَطمعونَ بدخولِها.
ثم قالَ اللهُ عزَّ وجلّ:﴿فلآ أُقسِمُ بِرَبِّ المَشٰرِقِ والَمغٰرِبِ إنّا لَقٰدِرون﴾ معناه أُقسِمُ بربِّ المشارقِ والمغاربِ، أي مطالعِ الشمسِ ومغارِبِها، والمرادُ بالمشارقِ والمغاربِ شَرقُ كُلِّ يومٍ ومغرِبُه. ثمَّ قالَ اللهُ عزَّ وجلّ:﴿على أن نُبَدِّلَ خَيرًا منهُم وما نَحْنُ بمَسْبوقِين﴾، أي إن اللهَ عزَّ وجلَّ قادرٌ على إهلاكِهِم وعلى أن يَخلُقَ أمْثَلَ منهم وأطوَعَ للهِ عزًّ وجلّ. فقال عزّ وجلّ:﴿على أن نُبَدِّلَ خَيرًا منهُم وما نَحْنُ بمَسْبوقِين﴾، أي وما نحن بمَغلوبِين، فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لا يُعجِزُه شيء.
ثمَّ قالَ اللهُ عزَّ وجلّ: ﴿فَذَرْهُم يَخُوضُوا وَيَلعَبُوا حَتَّىٰ يُلَٰقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُعَدُونَ﴾. “ذَرْهُم” أي دَعْهُم، اللهُ عزَّ وجلَّ قال:”فذرهم”، أي فدَعْهُم، دَع المُكَذِّبين واترُكْهُم، وهذا اللفظُ أمرٌ، معناه الوعيد والتَّهديد. فَذَرْهُم يَخُوضُوا في باطِنِهِم ويَلعَبوا ويَلهوا في دُنياهُم، كما قُلنا هذا وعيدٌ لهم،”حَتَّىٰ يُلَٰقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُعَدُون” أي يومَ القيامة.
ثمَّ وصفَ اللهُ عزَّ وجلَّ خُروجَهُم من القُبورِ فقال:﴿يَوْمَ يَخْرُجونَ مِنَ الأَجْداثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُم إلىٰ نُصُبٍ يُوفِضونَ﴾. فإنَّهم يَخرُجونَ مُسرعينَ حين يَسمَعونَ الصَّيحةَ الثانِية، يَخرُجونَ إلى إجابَةِ الدَّاعي، يَخرجونَ مِن القبورِ مُسرعينَ إلى المَحشَر. ” كَأَنَّهُم إلىٰ نُصُبٍ يُوفِضونَ” أي كأنَّهم إلى الأصنامِ التي كانوا يعبُدونَها في الدُّنيا يُسرِعون، يوفِضونَ أي يُسرِعون. ومعنى الآيةِ أنَّهم يَخرُجونَ من القبورِ مُسرعينَ إلى الدَّاعي وهو إسرافيلُ عليه السلام، مُستَبِقينَ إليه كما كانوا يَستَبِقونَ إلى نُصُبِهِم لِيَستَلِموها، فالأنْصابُ هي التي كانَ أهلُ الجاهليَّة يعبُدونَها ويَأتونَها ويُعظِّمونَها. فالمراد بذلك تشبيهُ إقبالِهم بسُرعةٍ إلى المكانِ الذي يُنادي منه إسرافيلُ عليه السلام كما كانوا يُقبِلونَ إلى أصنامِهم في الدنيا.
ووَصفَ الله عزَّ وجلَّ أبصارَهم حينَ يَخرُجونَ من القبورِ فقال:﴿خٰشِعَة أَبْصٰرُهُم تَرْهَقُهُمْ ذِلَّة﴾ خاشِعَةً أبصارُهم أي ذَليلَة خاضِعَة، تَرهَقُهُم تَغْشاهم ذِلَّة، يَغْشاهم الهوانُ يومَ القيامة. ﴿ذَلِكَ اليَوْمُ الذِي كَانُوا يُوعَدونَ﴾ أي ذلك اليوم وهو يوم القيامة الذي كانوا يُوعَدونَ به في الدنيا وأنَّ لهم فيه العذاب.
ولنَنظُر بماذا وصفَ الله عزَّ وجلَّ خُروجَ الكُفَّارِ من القبور في سورَة القَمَر، قال الله عزَّ وجل:﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إلى شَيْءٍ نُّكُر٦ خُشَّعًا أَبْصٰرُهم يَخْرُجونَ مِنَ الأَجداثِ كَأَنَّهُم جَرَادٌ مُّنْتَشِر ٧ مُهْطِعِينَ إلى الدَّاعِ يَقولُ الكَافِرونَ هٰذا يَوْم عَسِر۸﴾. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أعرِض عنهم يا مُحمَّد، وهذا تهديدٌ لهم. يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إلى شَيْءٍ نُّكُر، أي إسرافيل عليه السلام حين يَنفُخُ مِن بيتِ المَقْدِسِ النَّفخَةَ الثَّانِية، ومعنى “يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إلى شَيْءٍ نُّكُر” أي إلى شيءٍ فظيعٍ لَم تَعهَد النُّفوسُ مِثلَه. ويَخْرُجون كما قال الله عز وجل “خُشَّعًا أَبْصٰرُهم”، يَظهَرُ عليهم الذُّلُّ والهَوانُ حين يَخرُجون، ووصفهم الله عزَّ وجل بأنَّهم كالجرادِ المُنتَشِر، كأنَّهم جرادٌ مُنتشِرٌ في كثرَتِهم وتَفَرُّقِهم في كُل جِهة. وحين يَخرُجونَ ويَتَوجَّهون إلى بيت المَقْدِسِ حيثُ يَنفُخُ اسرافيل النَّفخةَ الثَّانية لا أحد منهم يَفِرُّ من هذا، لا أحد منهم يَحيدُ عن طريقِه، كما قال الله عزَّ وجلَّ في سورة طه:﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعونَ الدَّاعِىَ لا عِوَجَ لَه﴾. يَمشونَ من مكانِهم حين يَخرجونَ من القبور إلى المكان الذي فيه اسرافيلُ عليه السلام، إلى المكان الذي يَنفخُ فيه اسرافيلُ النَّفخَةَ الثَّانية من بيت المقدس. فيَتَّبِعون الدَّاعي، يَتَّبعون صوت الدَّاعي وهو اسرافيل حين يُنادي ويَقول: “أيّتُها العظامُ البالية والجلودُ المُتَمَزِّقة واللُّحوم المُتَفَرِّقة هَلُمّي إلى حِسابِ الرَّحمٰن”. فيُقبِلونَ من كلِّ أوبٍ إليه إلى صَوبِه لا يَعدِلونَ عنه، وهذا معنى “لا عِوَجَ له”، لا يَعْوَجُّ له مدعُو بل يَستَوون إليه من غير انحراف مُتَّبعين لصوتِه.
ووصف الله عزَّ وجلَّ حالَهم عند الانتقالِ من القبورِ إلى أرضِ المحشرِ فقال: ﴿وَخَشَعَتِ الأَصْواتُ لِلرَّحمٰنِ فَلَا تَسْمَعُ إلَّا هَمْسًا﴾. مع كثرَتِهم عند خُروجِهم، من خَوفِهم، و هَيبَةً وإجلالا للرحمٰن، لا تَسمَعُ إلا همسًا، لا تَسمع إلّا صوتا خفيفا.
ولنَنظُر ماذا وَردَ في سورة ق:﴿واسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ المُنادِ مِن مكانٍ قَريب٤١ يَومَ يَسْمَعونَ الصَّيحَةَ بِالحَقّ ذَلِكَ يَوْمُ الخُروج ٤٢ إنَّا نَحْنُ نُحىِ وَنُمِيتُ وإلينا المَصير ٤٣ يَومَ تَشَقَّقُ الأَرضُ عَنْهم سِراعًا ذلِكَ حَشر علينا يَسير٤٤﴾. واستَمِع أي يا مُحمَّد، أي استَمِع لما أُخبِرُك به مِن حالِ يَومِ القيامة، وفي ذَلك تَهويلٌ وتَعظيمٌ لشأنِ المُخْبَرِ بِه. “يَوْمَ يُنادِ المُنادِ”، من هو المنادي؟ هو إسرافيل عليه السلام. يُنادي إسرافيلُ مِن مكانٍ قريب كما قال الله عزَّ وجلّ، والمُراد بذلك مِن صَخرة بيت المقدس. حين يَنفُخُ إسرافيل النَّفخة الثَّانية ويَسمعونَ هذه الصَّيحَةَ يَخرجون مِن القبور كما قال الله عزَّ وجلّ:﴿يَومَ يَسْمَعونَ الصَّيحَةَ بِالحَقّ ذَلِكَ يَوْمُ الخُروج﴾، يوم خُروجِهم مِن القبور. ﴿إنَّا نَحْنُ نُحىِ وَنُمِيتُ وإلينا المَصير﴾ إلى الله المرجع، إلى الله المصير. تَتَشقَّق الأرض عنهم ويخرجون مُسرعين كما قال الله عزَّ وجلّ:﴿يَومَ تَشَقَّقُ الأَرضُ عَنْهم سِراعًا﴾، أي يَخرجون منها مُسرعين إلى إسرافيل عليه السلام. والله عزَّ وجلّ لا يُعجِزُه شيء سبحانه وتعالى، فقال عزَّ وجلّ:﴿ذلِكَ حَشر علينا يَسير﴾.
وحين يَخرُجون مِن القبور يكون مع كل واحدٍ مَلَكانِ مِن المَلائكة، مَلَكٌ يَسوقُهُ إلى أرض المَحشَر ومَلَكٌ يَشهَدُ عليه بعمَلِه كما قال الله عزَّ وجلّ في سورة ق:﴿وَنُفِخَ في الصُّورِ ذَلِكَ يَومُ الوَعيد ٢٠ وَجآءَت كُلُّ نَفسٍ معها سآئِقٌ وَشَهيد ٢١﴾. مَلَكان: مَلَكٌ يَسوقُهُ “سائقٌ”، ومَلَكٌ يَشهَدُ عليه بِعملِه وشَهيد”. ﴿لقَد كُنْتَ في غَفلَةٍ من هٰذا فَكَشَفنا عَنكَ غِطآءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَديد٢٢﴾ كان في غَفلَةٍ في الدنيا، كان في لَهوٍ ولَعِبٍ في هذه الحياة الدنيا، كان مخدوعا في الحياة الدنيا. “لقد كنتَ في غَفلةٍ من هذا” لقد كُنتَ في غَفلَةٍ من العمل لهذا اليوم. “فَكَشَفنا عَنكَ غِطآءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَديد” جُعِلَت الغفلة كَأنَّها غِطاء كأنَّها غشاوةٌ غطّى بها عينيه فهو لا يُبصِرُ شيئا. فيوم القيامة يرى ما كان يَسمَعُ به، يراهُ بعينِه يومَ القيامة “فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَديد”.
ولِيُعلَم أنَّ عبادَ الله الصَّالحين أن أولياء الله عزَّ وجلّ لا يخافونَ يَومَ القيامة ولا يَحزَنونَ يوم القيامة. لا يخافون حين يخافُ غيرُهُم من النَّاس ولا يحزنون حين يَحزنُ غيرُهم من النَّاس يوم القيامة،﴿ألآ إنَّ أولِياءَ اللهِ لا خَوف عليهم ولا هم يَحزَنون٦٢ الَّذينَ ءامَنوا وكانوا يَتَّقون٦٣ لَهُم البُشرىٰ في الحَيَوٰةِ الدُّنيا وفِى الأَخِرَةِ لا تَبديلَ لِكَلِمَٰتِ الله ذلك هو الفَوزُ العَظيم٦٤﴾. جعَلَنا الله تعالى جميعا مِن هؤلاء، والله أعلم و أَحكَم.