بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و صلى الله على سيدنا محمد و على آله و صحبه الطيبين الطاهرين
سنتكلم إن شاء الله تعالى في تفسير سورة المدثرو هي سورة مكية.
أخرج الشيخان في صحيحيهما عن جابر رضي الله عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي فنوديت فلم أرى أحدا فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء فرجعت فقلت دثروني فأنزل الله تعالى (يا أيها المدثر قم فأنذر) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها المدثر) هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم هو النبي عليه الصلاة و السلام و المعنى المتلفف بثيابه عند نزول الوحي عليه صلى الله عليه و سلم فخوطب بيا أيها المدثر فإذا المدثر هو المتلفف بثيابه و هذه الكلمة هي من الدثار, ما هو الدثار؟ الدثار هو كل ما كان من الثياب فوق الشعار, الشعار هو الثوب الذي يلي الجسد هناك ثوب يلي الجسد يقال له الشعار, الثوب الذي يكون فوقه يسمى الدثار. فالمدثر هو المتلفف بثيابه فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم متدثرا فأنزل الله عز و جل عليه (يا أيها المدثر) ثم قال الله عز و جل (قم فأنذر) أي قم قيام عزم وتصميم فحذر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا. (و ربك فكبر) أي عظم ربك يا محمد و رسول الله صلى الله عليه و سلم كان مؤمنا بالله عز و جل قبل نزول الوحي عليه و معظما لله سبحان الله تعالى و تعظيم الله عز و جل يكون بتوحيده و تنزيهه سبحانه و تعالى عن مشابهة المخلوقين و يؤخذ من هذه الآية أنه أول ما يجب على العبد معرفة الله عز و جل أي معرفة ما يجب لله من صفات الكمال و ما يستحيل على الله من النقائص فإن من شبه الله بخلقه لم يعظم الله فلا يكون مؤمنا بالله. ثم قال الله عز و جل (وثيابك فطهر) أي طهر ثيابك من النجاسات لأن طهارة الثياب شرط في صحة الصلاة و من العلماء من قال في تفسير هذه الآية قصر ثيابك مخالفة للعرب في تطويلهم الثياب و جرهم الذيول إذ لا يؤمن معه إصابة النجاسة ثم قال الله عز وجل )والرجز فاهجر( الرجز هو العذاب و المراد هنا في الآية ما يؤدي إلى العذا ب و المعنى اثبت يا محمد على هجر أي ترك ما يؤدي إلى العذاب ففسر قوله تعالى (فاهجر) بالثبات على الترك لأنه صلى الله عليه و سلم كان بريئا من ذلك فلا يلزم من قوله تعالى (وثيابك فطهر) و قوله تعالى (و الرجز فاهجر) لا يلزم من ذلك تلبسه صلى الله عليه و سلم بشيء من ذلك و إنما المعنى اثبت يا محمد على ذلك و في هذا أيضا تعليم للأمة ثم قال الله عز و جل (و لا تمنن تستكثر) أي لا تعطي عطية تلتمس بها أفضل منها معناه أعط لربك و أرد به ثواب الله عز و جل و هكذا كان يفعل عليه الصلاة و السلام و (لربك فاصبر) أي اصبر لله يا محمد اصبر لله على تكاليف النبوة اصبر لله على أداء طاعة الله اصبر لله على أذى الكفار. ثم قال الله عز و جل (فإذا نقر في الناقور) أي إذا نفخ في الصور. الناقور أي الصور و هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل و هو الملك الموكل بالنفخ. (فذلك يومئذ يوم عسير) فذلك أي وقت النفخ في الصور يوم عسير على الكفار. (على الكافرين غير يسير) أي هو غير سهل و هو غير هين على الكفار. و أكد الله عز و جل بقوله غير يسير ليعلم سبحانه و تعالى بأنه يسير على المؤمنين و بأنه عسير على الكافرين لا يرجى أن يرجع يسيرا ليس كحال الدنيا في الدنيا يرجى تيسير العسير أما في الآخرة فإنه لا يرجع يسيرا على الكفار ثم قال الله عز و جل (ذرني و من خلقت وحيدا) قوله تعالى (ذرني و من خلقت وحيدا) أي كل إلى الله يا محمد أمر الذي خلقه الله وحده لا مال له و لا ولد له ثم أعطاه الله بعد ذلك ما أعطاه و هو الوليد ابن المغيرة و كان يسمى الوحيد في قومه, و المعنى خل بيني و بينه فإني أتولى هلاكه فهذا وعيد و تهديد له و روى البيهقي في قصة الوليد ابن المغيرة أنه قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم اقرأ علي أي هو طلب من الرسول عليه الصلاة و السلام أن يقرأ عليه شيئا من القرآن فقرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم عليه قول الله تعالى (إن الله يأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى و ينهى عن الفحشاء و المنكر و البغي يعظكم لعلكم تذكرون) فحين سمع الوليد ابن المغيرة هذا قال للنبي صلى الله عليه و سلم أعد, فأعاد النبي صلى الله عليه و سلم تلاوة هذه الآية, و هنا انظروا ماذا قال الوليد ابن المغيرة بعد أن سمع آيات القرآن من تلاوة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال والله إن له لحلاوة و إن عليه لطلاوة و إن أعلاه لمثمر و إن أسفله لمغدق و ما يقول هذا بشر قال الوليد ابن المغيرة لقومه والله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني و لا أعلم برجزه و لا بقصيده مني و لا بأشعار الجن والله ما يشبه هذا الذي يقول شيئا من هذا والله إن لقوله الذي يقول حلاوة و إن عليه لطلاوة و إنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله و إنه ليعلو و ما يعلا و إنه ليحطم ما تحته, بعد أن قال الوليد ابن المغيرة هذا الكلام بلغ ذلك أبا جهل فذهب إليه خاف هو و كفار قريش أن يؤمن الوليد فذهب أبو جهل إليه و قال قل فيه قولا أي قل في القرآن قولا يبلغ قومك أنك منكر له و أنك كاره له و العياذ بالله و قال أبو جهل أيضا للوليد ابن المغيرة لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه, يريده أن يطعن في القرآن لأنه بلغه أن الوليد ابن المغيرة ذهب إلى النبي صلى الله عليه و سلم و سمع منه شيئا من القرآن و أنه رق له و أنه مدحه فخاف كفار قريش من أن يسلم الوليد ابن المغيرة فألح عليه أبو جهل ليتكلم بكلام فيه طعن بالقرآن و العياذ بالله فقال الوليد ابن المغيرة دعني حتى أفكر فصار يفكر و يقدر في نفسه ماذا يقول في القرآن من طعن و هو رأى فيه ما رأى من البلاغة ففكر الوليد ابن المغيرة ثم قال و العياذ بالله هذا سحر يؤثر أي هذا سحر يروى عن السحرة و العياذ بالله, فأنزل الله عز و جل قوله (ذرني و من خلقت وحيدا) ثم قال الله عز و جل ( و جعلت له مالا ممدودا) أي جعلت للوليد ابن المغيرة مالا كثيرا واسعا متصلا من الزروع و الضروع و التجارة و أعطيته مالا ممدودا و كان له ماله من البساتين و العبيد الجواري و الإبل و غير ذلك. (و بنين شهودا) كانوا عشرة أو أكثر أسلم منه ثلاثة منهم خالد ابن الوليد و معنى شهودا أي حضورا معه بمكة يتمتع بلقائهم لا يحتاجون إلى سفر لطلب المعاش و لا يحتاج أن يرسلهم في مصالحه لكثرة خدمه. (و مهدت له تمهيدا) أي بسطت له في العيش بسطا و وسعت عليه. (ثم يطمع أن أزيد) أي إن الوليد ابن المغيرة يطمع أن يزيده الله من المال و الولد على ما أعطاه الله عز و جل فقال الله عز و جل (كلا إنه كان لآياتنا عنيدا)
كلا ردع له و قطع لرجائه أي لا يجمع له بعد اليوم بين الكفر و المزيد من النعم ( إنه كان لآياتنا عنيدا ) كان معاندا للنبي صلى الله عليه و سلم و معاندا لما جاء به رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال الله عز و جل (سأرهقه صعودا) أي سأغشيه مشقة من العذاب لا راحة له منها. (إنه فكر و قدر) أي إن الوليد ابن المغيرة فكر ماذا يقول في القرآن و قدر في نفسه ما يقوله وهيأه (فقتل كيف قدر) أي لعن الوليد ابن المغيرة كيف قدر ما لا يصح تقديره و ما لا يسوغ أن يقدره عاقل و هذا تعجيب من حاله. (ثم قتل كيف قدر) كرر هذا للمبالغة و لبيان تقبيح ما فكر به الوليد ابن المغيرة. (ثم نظر) أي فكر ثانيا بأي شيء يدفع القرآن و يرده. (ثم عبس و بسر) أي قطب وجهه و بسر أي كلح, كلح وجهه و تغير لونه زاد في التقبض و الكلوح. (ثم أدبر و استكبر) أدبر عن الإيمان و تكبر عن قبول الحق و اتباع النبي صلى الله عليه و سلم ( فقال إن هذا إلا سحر يؤثر) قال الوليد ابن المغيرة ما هذا الذي أتى به محمد عليه الصلاة و السلام (إلا سحر يؤثر) أي سحر يروى عن السحرة أي زعم أن هذا سحر يرويه محمد و العياذ بالله و ينقله عن غيره من السحرة قبله. ( إن هذا إلا قول البشر) و زعم هذا المعاند و هو الوليد ابن المغيرة أن هذا القرآن ما هو إلا كلام البشر و ليس بكلام منزل من رب العالمين. ثم قال الله عز و جل (سأصليه سقر) أصليه أي سأدخله سقر أي جهنم و سقر اسم من أسماء النار (و ما أدراك ما سقر) هذا مبالغة في وصفها أي و ما أعلمك أي شيء هي و هي كلمة تهويل لشأن النار ثم فسر الله حالها فقال (لا تبقي و لا تذر) لا تبقي على ما ألقي فيها و لا تذر غاية من العذاب إلا أوصلته إليه فالكافر لا ينقطع عنه العذاب في النار وهي مع شدتها لا يموت فيها فيرتاح و لا يحيا حياة هنيئة بل عذابه أبدي مستمر سرمدي هذا ما عليه أهل الحق خاطبة بخلاف ما زعمه البعض من أن الكفار ينقطع عنهم العذاب و تفنى النار فإن هذا تكذيب للقرآن و وصف الله عز و جل جهنم بقوله (لواحة للبشر) أي مُغَيّرة للبشرات محرقة للجلود و مسودة لها (عليها تسعة عشر) عليها أي على سقر تسعة عشر ملكا من خزنة النار, مالك و معه ثمانية عشر, أي يلي أمرها تسعة عشر ملكا, ماذا قال كفار قريش عندما أنزل الله عز و جل هذه الآية و سمعوا أن عدد خزنة النار تسعة عشر ملكا, ماذا قالوا و بماذا رد الله عز و جل عليهم هذا ما سنتكلم فيه إن شاء الله عز و جل في درسنا القادم و الله أعلم و أحكم.