سورة الصَّف
أخرج الترمذي وغيره عن عبد الله بن سلام قال قعدنا نفرٌ من أصحاب رسول الله ﷺ فتذاكرنا
فقلنا: لو نعلمُ أيُ الأعمال أحبُ إلى الله لعمِلْناه،
فأنزل الله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}
قال عبد الله بن سلام: فقرأها علينا رسول الله ﷺ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}
سَبَّحَ لِلَّهِ أي مجّد الله ونزّهه عن كل سوء مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
{هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
العزيز أي القوي الذي لا يُغْلَبُ
الحكيم في تدبيره والمحكِم لخلق الأشياء
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}
استفهامٌ على جهةِ الإنكار والتوبيخ على أن يقولَ الإنسانُ عن نفسِه من الخير ما لا يفعله
لأنه إن خبَّر أنه فعل في الماضي أو في الحال ولم يفعلْه كان كذبًا
وإن وعدَ أن يفعلَ في المستقبل ولم يفعله كان خُلْفًا وكلاهما مذموم
{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}
المقتُ هو البغض الشديد لمن تراه تعاطى القبيح
والمعنى عَظُمَ بغضًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}
إن الله يحب الذين يجاهدون في سبيله صفا
أي يصُفُّون أنفسَهم عند القتال صفًّا
ولا يزولون عن مكانهم كأنهم بنيانٌ مرصوص ملصَقٌ بعضُه إلى بعض
أعلم سبحانه وتعالى أنه يحبُ من يثبتُ في الجهاد ويلزمُ مكانَه
كثبوت البنيان المرصوص
ويجوز أن يكون عنى أن يستويَ ثباتُهم في حربِ عدوِّهم
حتى يكونوا في اجتماعِ الكلمةِ كالبنيانِ المرصوص
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ}
أي واذكر يا محمد لقومك إذ قال موسى لقومه{يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي} كانت إذايتُهم له بانتقاصِه في نفسه وجحودِ ءايات الله تعالى واقتراحِهم عليه ما ليس لهم وغيرِ ذلك
ومعنى الآية {لِمَ تُؤْذُونَنِي}وأنتم عالمون أني رسول الله إليكم علمًا يقينًا لا شبهة فيه
والرسول يُعظّم ويُحترم ويوقَّر ولا يُؤذى
{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}
أي فلما مالوا عن الحق أزاغَ الله قلوبهم أي صرفَها عن قبولِ الحقِ وعن الميلِ إلى الصواب
وهذا دليل على أنه تعالى خالق لأفعال عبادِه كلِها حسنِها وقبيحِها
{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}
أي لا يهدي اللهُ من سبقَ في علمه الأزلي أنه فاسق خارج عن طاعته
{إِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}
أي واذكر أيضًا يا محمد لقومك إذ قال عيسى لقومه يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم
أي إني رسولٌ أُرسلتُ إليكم لأدعوَكم إلى عبادة الله تعالى وطاعته والعملِ بالإنجيل الذي أُنزل عليَّ
{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} أي مصدقًا بالتوراة التي أُنزلت على موسى
ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد
أي أبشركم بمجيء رسول من بعدي اسمه أحمد
وهو من أسماء نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم
سمّاه الله تعالى به قبل أن يولد فهذا عَلَم من أعلام نبوته
{فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}
فلما جاءهم أي عيسى وقيل محمد عليهما الصلاة والسلام بالآيات والمعجزاتِ والعلاماتِ والحججِ الدالةِ على صدقِ نبوته
قال الكفارُ المكذبون للرسول هذا سحرٌ مُبينٌ
أي زعموا أن ما جاء به الرسول من البيّنات هو سحرٌ مبينٌ أي بيّنٌ وظاهر
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ}
أي لا أحد أشدُ وأقبحُ ظلمًا ممن بلغ افتراؤه أن يكذب على الله عزَّ وجلَّ بنسبة الشريك والولد إليه ووصف ءاياته بالسحر.
وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ أي يدعوه ربه إِلَى الْإِسْلَامِ عن طريق إرسالِ رسلِه فالإسلامُ هو الدين الذي رضيه الله لعباده وأمرهم باتباعه، فكل الأنبياء من ءادم إلى خاتِمِهم محمدٍ عليهم السلام جاءوا بدين الإسلام يأمرون قومهم بتوحيد الله تعالى والتزام أوامره واجتناب نواهيه وفي الآية تعجيب ممن كفر بعيسى ومحمد بعد المعجزات التي ظهرت لهما
فالكفر هو أشد الظلم وأشد أنواع الكفر إنكار وجود الله.
{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}
أي من كان في عِلمِ الله أنه يموت كافرًا فالله لا يوفّقه إلى ما فيه فلاحُه
بل يختم له بالضلالة نسألُ الله أن يَخْتِمَ لنا بالحُسنى ويدخلَنا الجنةَ بغيرِ عذاب.
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}
يريد الكفار أن يبطلوا الحق الذي جاء به النبي بأفواههم أي بأقوالهم
يريدون إبطالَ القرءانِ وتكذيبَه بالقول يريدون دفع الإسلام بالكلام
وقيل هذا مثل مضروبٌ أي من أراد إطفاءَ نورِ الشمس بفِيه يجدْهُ ممتنعًا فكذلك من أراد إبطال الحق
{وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} أي مُبَلِّغُهُ غايتَه ومُظْهِرُهُ بنشره وإعلانه في الآفاق
{وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} ذلك وهم مغلوبون والله هو الواحد القهار
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}
هو الله عزَّ وجلَّ الذي أرسل رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى أي بالبيان الشافي وهو القرءان وأرسله بدين الحق وهو دينُ الإسلام الذي هو دينُ كلِ الأنبياء أرسله الله ليظهرَه أي لِيُعْلِيَهُ على الدين كله أي على جميع الأديان المخالفة له ولو كره المشركون إظهاره وليس المرادُ من إظهارِه أنْ لا يبقى في العالمِ من يكفرُ به بل المراد أن يكونَ أهلُه عالين غالبين على أهل سائر الأديان بالحجة والبرهان وقال أبو هريرة رضي الله عنه:”ليُظْهِرَهُ على الدينِ كله بخروج عيسى عليه السلام فحينئذ لا يبقى دينٌ سوى الإسلام”.