إن الله تعالى لما ذكر في هذه السورة حدودًا ونهى عن تعدّيها
ذكر الذين تعدّوا الحدود من الأمم الماضية وما حل بهم
تأكيدًا لإيجاب المحافظة على ما ذكر من الحدود والأحكام
وتخويفًا من التقصير في رعايتها فقال عزَّ وجلَّ:
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا}
كم من أهل قرية أي كثيٌر من أهل قرية
كم من قرية عتت أي أعرضت عن أمر ربها ورسله أي
أعرض أهلها على سبيل العناد والتكبر
{فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا} فلم تغتفر لهم زلة بل أخذوا بالدقائق من الذنوب.
{وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} أي منكرًا فظيعًا المراد حساب الآخرة وعذابها والتعبير بلفظ الماضي للتحقيق.
{فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا}
أي ذاقت جزاء ما عملت وأتت به من معاصي الله والكفر به
{وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} أي هلاكًا في الدنيا والآخرة في جهنم.
{أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} بيّن ذلك الخُسْر وأنه عذاب جهنم في الآخرة.
{فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الالبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا}
أمر الله المؤمنين بالتقوى تحذيرًا من عقابه ونبَّه على ما يحض على التقوى
{يَا أُولِي الالبَابِ} أي ذوي العقول
ثم نعتهم فقال:{الَّذِينَ آَمَنُوا} لأن العاقل هو الذي ءامن بالله ورسوله وعمل بما يرضي الله عزَّ وجلَّ،
والمعنى:يا أولي الألباب الذين ءامنتم بالله اتقوا الله خافوه واعملوا بطاعته وانتهوا عن معاصيه.
{قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} وهو القرءان لاشتماله على ذكر الله تعالى.
{رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}
أي بعث الله وأرسل رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات يعني القرءان المنزل من عند الله تعالى
مُبَيِّنَاتٍ أي تبيّن الحلال من الحرام والأمر والنهي وما تحتاجون إليه من الأحكام{لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}
بعث الله وأرسل رسولا لِيُخْرِجَ الله الَّذِينَ آَمَنُوا
الذين قضى الله وقدَّر وأراد إيمانهم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ أي من الكفر إِلَى النُّور أي الهدى والإيمان
{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقًا}
وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ أي بقلبه إيمانًا جازمًا بوحدانية الله عزَّ وجلَّ وأنه المعبود بحق ولا شبيه له
وَيَعْمَلْ صَالِحًا أي بطاعة الله وما فيه مرضاتُه
{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقًا}
اللهم ارزقنا الجنة وما قرَّب إليها من قول أو عمل
{اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}
{اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} عددُهن سبعُ سماوات بعضُها فوق بعض،
بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام
{وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} أي مثلَهن في العددِ أي سبعَ أرضين
بين كل أرض وأرض مسيرة خمسمائة عام وقد دلّ على هذا العدد حديث عبد الله بن عمر قال: قال النبي ﷺ: «من أخذ شيئًا من الأرض بغير حقه خُسِف به يوم القيامة إلى سبع أرضين» رواه البخاري.
{يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ}
أي يجري أمرُ الله وقضاؤُه بينَهُنَ وينفُذُ حكمُه فيهِن
فبينهن إشارة إلى ما بين السماء السابعة التي هي أعلاها وبين الأرض السابعة التي هي أقصاها
{لِتَعْلَمُوا}أيها الناس{أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وهذا يدل على كمال قدرة الله تعالى وأنه لا يتعذر عليه شىء أراده
{وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} فلا يخرج شىء عن علمه.