شرح الأربعين النووية
قال الشيخ سمير القاضي حفظه الله:
الحمد لله ربّ العالمين له النّعمة وله الفضل وله الثناء الحسن صلوات ربي وسلامه على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين وءال كل وصحب كل والصالحين.
إن شاء الله تعالى نشرع الآن في بيان معنى الحديث الأول من الأربعين النووية
قال المؤلف: الحديث الأول
الشرح: هذا حديث صحيح متفق على صحته متفق على عظيم مرتبته على جلالته وكثرة فوائده حتى قال الإمام الشافعي يدخل فيه ثلث العلم وكذلك قال الإمام أحمد رحمهما الله تعالى لذلك استحب العلماء أن تستفتح المصنفات به لأنه متعلق بالنية تنبيهًا على تحسين النية وأن تكون لله تعالى عند افتتاح العمل.
قال المؤلف: عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه
الشرح: أمير المؤمنين لقب أطلق على الخلفاء أول خليفة أطلق عليه لقب أمير المؤمنين هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبو حفص كنيته كناه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والحفص الشبل أبو حفص أي والد الشبل كنية كناه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رضي الله عنه من قبيلة قريش من بني عدي من قريش قرشي عدوي توفي شهيدًا في المدينة المنورة سنة أربع وعشرين عن ثلاث وستين سنة كان عمر رضي الله عنه يدعو الله أي يقول: “يا ربّ توفني شهيدًا في سبيلك في بلد نبيك” فقيل له:”الأعداء الذين يحاربون المسلمين بعيدون عن المدينة” فقال: “الله تعالى قادر على ما يشاء” فكان كما قال قُتل مظلومًا قتله غيلة غدرًا إنسان مجوسي فمات شهيدًا في مدينة النبي عليه الصلاة والسلام.
قال المؤلف: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:إنما الأعمال بالنيات”.
الشرح: إنما الأعمال بالنيات فيه تأكيد إنما الأعمال أُؤكد فيه معنى التأكيد إنما أُؤكد أن الأعمال بالنيات والمراد بالأعمال الأعمال الشرعية ، بالنيات أي أن العمل لا يثبت شرعًا لا يكون في الشرع معتبرًا إلا بالنية إنما الأعمال بالنيات أي لا يعتبر العمل شرعًا إلا بالنية المعتبرة الصحيحة.
الأعمال أيضًا عندما نقول لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: “إنما الأعمال بالنيات” الأعمال جمعٌ ، جمعُ تكسير دخلته ال فدل على العموم يعني كل عمل كل الأعمال الشرعية لا تكون معتبرة إلا بالنية والنية لغة القصد والمقصود هنا المراد هنا توجه القلب نحو الفعل ابتغاء لوجه الله امتثالا لأمره فيكون التقدير إنما اعتبار الأعمال بالنيات ،إنما الأعمال بالنيات أي إنما اعتبار الأعمال بالنيات، فما خلا عن النية لا يكون معتبرًا شرعًا وهذا يدل هذا الحديث فيه دليل على أن الطهارة الوضوء و الغسل و التيمم و الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و الاعتكاف و سائر العبادات كلها لا تصح إلا بالنية نعم إزالة النجاسة لا تحتاج إلى نية لأنها من باب التروك إزالة النجاسة مثل الترك أما الوضوء و الغسل و التيمم و الصلاة و نحو ذلك كلها لا تصح إلا بالنية أما الترك فلا يحتاج إلى نية وقد قام الإجماع على أن إزالة النجاسة لا يحتاج فيها إلى نية.
” و إنما لكل امرئ ما نوى ”
الشرح: ” إنما الأعمال بالنيات ” يعني أن اعتبار الأعمال بالنيات ” وإنما لكل امرئ ما نوى ” يعني أن تعيين المنوي شرط هذا معناه يشترط في العمل تعينه لو كان شخص عليه قضاء صلوات لا يكفي أن ينوي أصلي صلاة قضاء بل لا بد له أن ينوي أنها الظهر أو العصر أو الصبح لولا هذه العبارة و إنما لكل امرئ ما نوى لكان يصح يكفي أن ينوي أصلي صلاة قضاء لكن هذه العبارة تدل تعطي أن الإنسان يحصّل ما نواه ما عينه بنيته فإذا نوى أن يقضي العصر وصلى تكون الصلاة التي صلاها قضاء للعصر إذا نوى أن يقضي الصبح وصلى تكون صلاته التي صلاها قضاء للصبح و هذا كله إنما الأعمال بالنيات وإنما لك امرئ ما نوى يدل على أن ما يحصله المرء هو ما نواه إن كان محمودًا أو غير محمود إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر ويُعلم من هذا أن العادة إذا انضمت إليها النية يمكن أن تصير طاعة يعني يمكن أن يثاب عليها وذلك مثل الأكل إذا انضمت إليه نية التقوي على طاعة الله يكون فيه ثواب مثل الشرب الأمر نفسه.
كما حصل مع المرأة التي قالت للنبي عليه الصلاة والسلام ” إني نذرت إن ردك الله سالمًا من الغزو يعني أن أضرب بالدف بين يديك” ضرب الدف ليس طاعة لكن لما كانت نيتها بهذا إظهار الفرح برجوع النبي عليه الصلاة والسلام سالما الفرح به عليه الصلاة والسلام قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: “أوفي بنذرك” فكان فعلها طاعة وإنما كان طاعة بسبب النية التي انضمت إليه.
أيضًا يعرف من هذا يعني ويشبه هذا التطيب إذا نوى به السنة كان له ثواب إذا نوى به غير ذلك إذا نوى به السنة أن يدفع الرائحة الكريهة عن غيره من عباد الله لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بذلك كان له ثواب أما إذا كان مقصوده التلذذ به فقط فلا ثواب له لأنه لكل امرئ ما نوى لا يحصّل من العمل إلا ما كان نواه إن نوى به الثواب حصّل الثواب إن لم ينو الثواب لا يحصّل الثواب بذلك لذلك ينبغي للإنسان أن يتنبّه في أعماله كلها في كل أعماله ينبغي للإنسان أن يتنبه أن ينظر ما قصده ما نيته لماذا يفعل هذا الفعل لماذا يصلي لماذا يدفع الزكاة لماذا يصوم لماذا يعلم لماذا يتعلم هل له من ذلك مقصد دنيوي أم أن مقصده من ذلك طاعة الله تبارك وتعالى إذا كان مقصده الدنيا ينبغي أن يصلح شأن قلبه وأن يصلح نيته وأن يجعل نيته لله يعرف من ذلك أن الإنسان بسبب عدم تفقده لقلبه يضيع منه ثواب عظيم كل يوم المرأة تعمل في البيت تعمل في تربية الأولاد تطبخ الطعام لزوجها و أولادها ولا تنوي أنها تفعل ذلك طلبًا لرضى الله تخرج من كل هذا التعب بلا ثواب ، الرجل يعمل ويكد ويتعب حتى يحصل النفقة و لا ينوي أنه يفعل هذا قيامًا بالواجب الذي أوجبه الله عليه إنما على وجه العادة يخرج من عمله هذا بلا ثواب وهكذا أعمال كثيرة يرى إنسانًا فقيرًا يمد يده إلى جيبه فيعطيه المال لا ينوي أنه يفعل ذلك طاعة لله ليس أنه يعطيه لأن النبي أمر بذلك لأن الله أمر بذلك لا إنما فقط لأجل الشفقة التي حصلت في قلبه ولا يخطر بباله أنه يفعل ما أمر الدين به يخرج من عمله هذا بلا ثواب وهكذا أشياء كثيرة إذا لم يفطن الإنسان لها ولم يتفقد قلبه عندها ولم ينو النية الصحيحة معها النية المناسبة معها مع كون هذه الأعمال حسنة في أصلها يخرج منها بغير ثواب لأنه لم ينو النية المناسبة لأن الأعمال بالنيات ولأنه لكل امرئ ما نوى.
” فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ”
الشرح: من كانت هجرته من حيث النية والقصد إلى الله ورسوله من كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وقصدًا من كان قصده بالهجرة أن يرضي الله تعالى وأن يطيع الرسول عليه الصلاة والسلام.
” فهجرته إلى الله ورسوله ”
الشرح: تكون تقع هجرته حكمها أنها هجرة مقبولة تكون هجرته إلى الله ورسوله.
” ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها ”
الشرح: من كانت هجرته لأجل دنيا يحصل عليها يقصد الحصول عليها
” أو امرأة ينكحها ”
الشرح: أو هاجر لأجل امرأة يريد أن يتزوجها
” فهجرته إلى ما هاجر إليه ”
الشرح: لا تكون هجرته مقبولة عند الله لأن حكم هجرته هل هي مقبولة أو لا هل هي طاعة أو لا يدور مع نيته وقصده.
في وقت من الأوقات كانت الهجرة فرضًا على المسلمين أن يهاجروا إلى المدينة المنورة كان فرضًا على القادر أن يهاجر إلى المدينة المنورة نصرة للدين نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول النبي عليه الصلاة والسلام من كانت هجرته إلى الله ورسوله من قصد بهجرته مرضاة الله وطاعة رسوله فهجرته هذه تكون مقبولة أما من كان له بهجرته قصد آخر فلا تكون هجرته مقبولة عند الله.
وهذه العبارة إلى الله من كانت هجرته إلى الله وما شابهها وردت في نصوص عديدة جاءت للتعظيم مثلا قال الله تعالى إخبارًا عن قول سيدنا إبراهيم { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ } وكان إبراهيم في العراق ذهب إلى الشام لكن بما أن ذهابه كان فرارًا من أرض الكفر إلى أرض بارك الله فيها عبّر فقال إني ذاهب إلى ربي أي إلى الأرض التي باركها ربي فتكون عبارة إلى ربي في مثل هذا للتعظيم في لغة العرب يستعمل هذا ليس كل ما استعمل إلى فلان أو إلى الله أو إلى كذا يكون معناه الانتقال من مكان إلى مكان لا كما في هذا الحديث الذي مر معنا من كانت هجرته إلى الله ليس معناه أن الله سبحانه كان في المدينة وأن المهاجر هاجر من مكة مثلا إلى المدينة حيث الله موجود حاشى وكلا الله موجود بلا مكان هو خلق الأماكن لا يحتاج إليها ولا يحلها إنما المعنى تعظيمًا لأمر الله من قصد طاعة الله من كانت هجرته إلى طاعة الله تبارك وتعالى فاستعمل لفظ إلى الله للتعظيم كما في الآية التي ذكرناها { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ } وكما في قول الله تبارك وتعالى إخبارًا عن سيدنا عيسى { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } عيسى رُفع إلى السماء معناه إلى المحل المكرم عندي المشرف عندي الذي لم أُعصَ فيه مثل هذا يكون في لغة العرب و بهذا المعنى جاء الحديث الذي ذكرناه من كانت هجرته إلى الله ورسوله.
قال المؤلف: رواه إماما المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه
الشرح: وهذا الحديث فيه بيان عظيم موقع النية صح عن نبي الله عليه الصلاة والسلام أنه قال:”أول الناس يدخل النار يوم القيامة ثلاثة نفر يؤتى بالرجل فيقول يا رب علمتني الكتاب فقرأته آناء الليل والنهار رجاء ثوابك فيقال كذبت إنما كنت تصلي ليقال إنك قارئ مصلٍّ وقد قيل يعني أنت ما كانت نيتك خالصة لوجه الله تعالى إنما كنت تقرئ القرءان حتى يقال قارئ حتى يمدحك الناس وقد مدحت ثم يؤمر به إلى النار.
يؤتى بآخر فيقول رب رزقتني مالا فوصلت به الرحم أعطيت أقاربي المحتاجين وتصدقت به على المساكين وحملت ابن السبيل رجاء ثوابك وجنتك فيقال كذبت كلامك ليس صحيحًا إنما كنت تتصدق وتصل ليقال إنه سمح جواد حتى يقال عنك كريم وقد قيل اذهبوا به إلى النار.
ثم يجاء بالثالث يؤتى بالثالث فيقول يا رب خرجت في سبيلك فقاتلت فيك حتى قتلت مقبلا غير مدبر رجاء ثوابك وجنتك فيقال كذبت إنما كنت تقاتل ليقال إنك جريء شجاع وقد قيل اذهبوا به إلى النار.
لذلك شأن الأولياء الصالحين العلماء العاملين أنهم يراعون قلوبهم كان بعض فقهاء الشافعية يقال له عبد الملك بن إبراهيم الهمذاني من مدينة همذان كان هذا الرجل إذا أراد أن يؤدب ولده بالضرب أو غيره قبل أن يفعل يحدث نفسه يستحضر النية في قلبه يقول نويت أن أُؤدب ولدي طلبًا لرضى الله تبارك وتعالى يعني لا أفعل هذا لأجل الانتصار لحظ النفس لا إنما أريد من ذلك ما أمر الله به من حُسن تأديب الولد ولده يقول أحيانًا إلى أن يستحضر النية في قلبه أكون هربت وذلك مراعاة منه لأمر النية حتى لا يكون فعله خاليا عن الثواب حتى لا يكون فعله خارجًا عن القيام بطاعة الله تعالى حتى لا يكون عمله إلا فيه ثواب لله عزّ وجلّ وهكذا ينبغي أن يكون الإنسان يراعي قلبه عندما يقوم بالأعمال حتى تكون أعماله مقبولة عند الله وحتى يكون مثابًا عليها.
قال المؤلف: رواه إماما المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري.
الشرح: هذا البخاري المشهور الإمام المشهور كان يقال له الجعفي لأن بينه وبين قبيلة يقال لها جعف ولاء كان ولاؤه لهم لذلك كان يقال له الجعفي وإلا فأصله ليس عربيًا لم يكن عربي الأصل نشأ في عفاف وستر نشأة عجيبة في الإقبال على العلم وفي الطاعة رحمه الله تعالى يقال إنه لم يضع حديثًا في كتابه الصحيح إلا صلى قبله ركعتين قبل أن يكتب حديثًا يصلي ركعتين كل حديث هكذا فعل فيه رحمه الله توفي قرب سمرقند في قرية يقال لها خرتنك وهناك قبره إلى الآن بعدما دفن صارت رائحة الطيب تصعد من قبره فاجتمع الناس على قبره أيامًا ثم الحاكم منعهم من ذلك خشي أن تحصل فتن فمنعهم من ذلك رحمه الله تعالى كانت وفاته سنة ست وخمسين ومائتين من الهجرة وكان سنه اثنتين وستين عامًا.
قال المؤلف: وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري
الشرح: وأيضًا رواه مسلم بن الحجاج القشيري نسبة إلى قشير بن كعب بن ربيعة قبيلة من القبائل بطن من البطون وكان مسلم من مدينة يسكن مدينة نيسابور توفي سنة إحدى وستين ومائتين عن سبع وخمسين سنة وكان عند البخاري كالتلميذ عند شيخه كان أحيانًا يقبل رجله عندما يسمع منه الفائدة ويسميه أستاذ الأستاذين رحمهما الله تعالى وجزاهما خيرًا.
قال المؤلف: القشيري النيسابوري رضي الله عنهما في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب المصنفة.
الشرح: أصح الكتب المصنفة في جمع الأحاديث المرفوعة الصحيحة لهما مزية البخاري ومسلم حتى قالوا إذا أخرج الحديث البخاري ومسلم كلاهما فهذا الحديث في أعلى درجات الصحة رحمهما الله تعالى وقد أخرج هذا الحديث غير البخاري ومسلم أيضًا أخرجه الإمام مالك في الموطأ وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم كثير وكما ذكرنا قال العلماء يستحب أن تستفتح التصانيف به لما فيه من التذكير بشأن النية ولذلك افتتح النووي أربعيه بهذا الحديث.
نسأل الله تعالى أن ينفعنا به وأن يرزقنا أن نقوم بالأعمال الصالحة بالنيات الحسنة إنه سميع مجيب والله تبارك وتعالى أعلم وأحكم.