كل مصيبة بعدك جلل
انتهت غزوة أحد … وبدأت مع نهايتها أحداثٌ فيها عبرٌ كثيرة… فيها ودع رسول الله صحابةً بذلوا أرواحهم في الدفاع عن الدين… سبعون من الصحابة استشهدوا في تلك الغزوة…. فقد كثير من الناس أقاربهم وأحبابهم.. رسول الله فقد عمه وحبيبه وأخوه من الرضاعة، حمزة رضي الله عنه…
ارتفعت الأصوات والمسلمون يترقبون ويستقبلون خبر من استشهد… في هذا الوقت تنتظر فيه الزوجة والبنت والاخت، هل عاد زوجها؟ هل جرح أخوها؟ ماذا صنع ابنها؟ هل حفظه الله من طعنات وسهام الكفار، أم أكرمه بالشهادة؟ تصبِّر نفسها لتلقي الخبر… ربنا أعلم كيف يمر الوقت وهي لا تعرف من من اهلها ما زال حيًّا ومن استشهد؟
من بين من يترقب امرأة كان مع ما كان في المعركة زوجها وأخوها… وكانا ممن استشهدوا… نُعوا اليها وأخبرت بموتهم، فما كان منها إلا أن سألت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟… لم تكن قاسية القلب غير مهتمة بخبر أهلها…. لم يكن قلبها فارغًا من حب الزوج والأخ…. لكن، كان هناك من هو أحب إليها…. من هداها الله به من الظلمات إلى النور…. الرحمة المهداة…. من علمها وعلم أباها وأخاها أن هذه الدنيا هي دار ممر، وليست دار مستقر… من هداهم الله به إلى نور الإيمان وترك عبادة الأوثان…. قالوا لها قتل زوجك وأخوك، قالت: ماذا فعل رسول الله؟ قالوا: “خيرًا يا أمَّ فلان”، فقالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشاروا لها إليه حتى إذا رأته قالت: “كل مصيبة بعدك جلل”…. ما دمت سالـمًا فالمصيبة بعدك جلل…. هينة… لا من قليل محبتها لزوجها وأخيها، وإنما من فَرْطِ حبِّها للنبي عليه الصلاة والسلام فهي تعلم ان مصيبة فقده صلى الله عليه وسلم أشد من مصيبة فقد الأهل…. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين”…
أحبوه رضوان الله عليهم حبًّا دعاهم إلى التفكير بما يتجاوز لقاءهم له في الدنيا… دفعهم للتفكير في كيف يكون اللقاء معه بعد الموت… فقد جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “لأنت أحبُّ إليَّ من نفسي وولدي وأهلي ومالي، ولولا أني آتيك فأراك لظننت أني سأموت، وبكى الأنصاريّ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أبكاك؟» قال: “ذكرتُ أنك ستموت ونموت، فترفع مع النبيين، ونحن إن دخلنا الجنة كنا دونك”… يبكي لأنه تفكر أنه وإن دخل الجنة، لن يكون في منزلته صلى الله عليه وسلم، فظن أن معنى هذا أنه لا يراه… فأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا﴾… لا يعني اختلافهم في الرتبة أنهم لا يلقونه صلى الله عليه وسلم…. وهذا ما دفع بلالًا رضي الله عنه إلى أن يقول وهو على فراش الموت واطرباه…. وهو على فراش الموت… لأنه عرف أن هذا الموت سيُقرِّبه إلى لقاء حبيبه صلى الله عليه وسلم، فقال واطرباه، غدًا نلقى الأحبة… محمدًا وحزبه…
أحبوا رضوانُ الله عليهم رسولَ الله محبة حقيقية… محبة يطيع الواحد فيها محبوبه ويتشبه به… المحبة ليست مجرد قول أنا أحب فلانًا…. أنت لو جاءك شخص فقال أنا أحبك، ثم صار لا يفعل ما ترشده إليه ويفعل ما لا تحبه، قد تقول له ما هذه المحبة؟ هكذا يكون حال المحب؟….
كمال المحبة يوصل إلى طاعة المحبوب…. “ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم“… ليس دليل المحبة مجرد وضع لوحة في البيت مزينة عليها اسمه صلى الله عليه وسلم، ولا يكفي أن تنشد أناشيد في مدحه صلى الله عليه وسلم… من غير أن تكون ماشيًا على طريقته، مؤديًا لما أخبرنا النبي أن الله أوجبه علينا… ومجتنبًا لما بين لنا أن الله حرمه علينا… من يحب رسول الله يتقي الله….
واسمع معي كلمات معاذ بن جبل قال لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن…. خرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيه….ثم قال له: “يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا… لعلك أن تمرَّ بمسجدي وقبري”… فبكى معاذ… يفارق النبي ويقول له النبي عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا…. ولعلك أن تمر بمسجدي وقبري…. بكى معاذ، وحقَّ لهُ البكاء… فقال له النبي صلى الله عليه وسلم، مخففًا عنه، مقويًّا له على الذهاب وعلى مفارقته: ” إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا”… كانوا عربًا كانوا عجمًا…. كانوا أغنياء، كانوا فقراء… كانوا في مكة، كانوا في اليمن…. “إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا”….
تريد القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ في الدنيا لن تستطيع أن تصاحبه… فاسع إلى أن تكون في الآخرة معه صلى الله عليه وسلم… كن من المتقين… والتقوى لا تكون إلا بالعلم والعمل…. تعلم ما أوجب الله عليك واعمل… مجرد المشاعر لا تكفي…. قال الله تعالى: ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورًا…. أرارد الآخرة وسعى… ما قال الله أراد الآخرة وتمنى… أراد الآخرة وسعى لها سعيها…. وهو مؤمن، فإن الإيمان بالله لا بد منه للنجاة في الآخرة ولقبول الأعمال الصالحة…. من اجتمعت فيه هذه الأمور الثلاثة… فأولئك كان سعيهم مشكورا….
اللهم ارزقنا السعي للآخرة