قالت ومن خير من أبي سلمة
عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أصابته مصيبة فليقل إنا لله وإنا إليه راجعون…. اللهم عندك أَحتسبُ مصيبتي… فأْجُرني فيها وأبدِلًني بها خيرًا منها” فلما مات أبو سلمة قلتها فجعلتُ كلَّما بلغتُ: “أَبْدِلني خيرًا منها” قلت في نفسي: وَمْن خيرٌ من أبي سلمة؟… ثم قلتها…. أبو سلمة كان أحد السابقين الأولين… هاجر إلى الحبشة ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرا…. فكانت تقول في نفسها ومن خير من أبي سلمة…. فَأَعْقَبَهَا اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَزَوَّجَهَا….
الصبر مع التوكل على الله والثقة بالله، والعمل بما أرشد إليه الشرع…. أثرُه كبير….
كل مؤمن يعتقد أنه لا يكون إلا ما شاء الله، وأن الله خالق كل شىء، وأنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، لكن يتفاوت المؤمنون في قوة استحضار هذه وذكره في قلبه… وباستحضار هذا يقوى ظهور أثره في أعمال الشخص…
وأيُّ استحضار هذا الذي كان في قلب الخليل إبراهيم عليه السلام، وهو يرمى إلى نار من قوتها ما استطاع الكفار الاقتراب منها بل رموه إليها بالـمِنْجَنِيْق، فرأى -وهو في الهواء-جبريل عليه السلام وهو من أقوى خلق الله تبارك وتعالى يسأله ماذا يريد… تفكَّر لو كنت في مثل هذا الموقف ماذا يكون حالك؟ بسبب قوة استحضار سيدنا إبراهيم عليه السلام كان جوابه: أما منك فلا… وكان ءاخر كلامه قبل أن يرميه الكفار: حسبي الله ونعم الوكيل… “حسبي الله” أي الله يكفيني ما أهمَّني، “ونعم الوكيل” أي نعم الموكول إليه الأمر… مثله قال صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
التوكل ليس مجرد كلمة يجريها الشخص على لسانه أو يعلق الواحد ءاية دالة عليه في بيته ومتجره، وليس مجردَ ذكرٍ يردده الشخص، التوكل تفويض الأمر إلى الله تعالى والثقةُ به…
مَن قوي استحضار هذا في قلبه لم يلتفت إلى من ليس بيده الأمر ولا تعلَّقَ بالمخلوقات بحيث ينسى أنَّ الخالق هو المدبِّر وأنَّ ﴿من يتوكَّل على الله فهو حسبه﴾، فتراه صارفًا وقته إلى ما في طاعة الله تعالى مبتعدًا عما يغضب مولاه وخالقه ورازقه ومدبره… تراه يجود بالصدقات واثقًا بالله تعالى لا يمنعه خوف الفقر من بذل ماله في سبيل الله… تراه ءامرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر لا يثنيه خوف من ظالم عن نصرة دين الله تعالى… لأنه عرف أنه لا يسوق الخير إلا الله ولا يصرف السوء إلا الله…
وانظر إلى تمكُّن ابي بكر رضوان الله عليه في ذلك، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا أن نتصدَّق، فوافَقَ ذلك مالًا عندي، فقلت: اليوم أسبقُ أبا بكر إن سبقته يومًا، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك؟»، قلت: مثلَه، قال: وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك؟» قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شىء أبدًا… هذا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم… هذا الذي علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم التوكّل بحاله ومقاله، هذا الذي وعى ما أرشده إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما كان معه في الغار في الهجرة المباركة رأى آثار المشركين، قال أبو بكر: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لرآنا، قال: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما»…
هؤلاء الصحابة، بتلك القلوب النظيفة والهمم العالية، بقوة التوكل على الله واليقين… بارك الله لهم وأجرى على أيديهم خيرًا كثيرًا…. مع فقر وضعف كثير منهم كانوا خير القرون في هذه الأمة التي هي أفضل الأمم…. ذهبوا كلُّهم، وبقيت ءاثارهم… وليست تلك الآثار قصورًا تزار، ولا متاحفَ جمعت فيها مقتنياتهم الفاخرة… ليست مناصبَ ورِّثت لأبنائهم من بعدهم، وليست خَدَمًا تتناقلهم الأجيال… بل هي هجرة أبي بكر رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم، وشجاعة عمر في الدفاع عن الدين ، وتجهيز عثمان رضي الله عنه جيش العسرة، ودفاع عليّ رضي الله عنه عن وحدة هذه الأمّة…. ثبات خديجة، وسعة علم عائشة، وحياء فاطمة، وقتال أم عمارة…. إلى غير هذا من المواقف التي تضيء تاريخ أولئك الأكابر… رضي الله عنهم ورضوا عنه…