قالت أطابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله
أصغر بنات النبي صلى الله عليه وسلم كانت أفضل نساء هذه الأمة، فاطمة رضي الله عنها…. سيدةُ نساء العالمين في زمانها…. تمكَّن حبها في قلب أبيها المصطفي صلى الله عليه وسلم حتى قال: «فإنما هي بَضْعةٌ مني» تعرفون ما البضعة؟ القطعة من اللحم… فإنما هي قطعة مني..كالجزء مني…
كانت إذا دخلتْ على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها، فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا دخل عليها قامتْ من مجلسها، فقبلته وأجلسته في مجلسها… إذا سافر كان آخر عهده صلى الله عليه وسلم بإنسان من أهله فاطمة… ءاخر من يراه قبل سفره فاطمة، وأول من يدخل عليها إذا قدم فاطمة…. وهي الوحيدة من أولاده صلى الله عليه وسلم التي لم تمت في حياته…
أقبلت يومًا تمشي رضي الله عنها كأن مِشْيَتَها مَشْيُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مرحبا بابنتي» ثم أجلسها عن يمينه أو عن شِماله…. ثمَّ أسَرَّ النبي صلى الله عليه وسلم لها بأمر لا شكَّ كان شديد الوقع عليها… فقد أخبرها أنه يظن أن أجلَهُ قد اقترب.. اقترب الوقت الذي يفارقها فيه…قال لها: «إن جبريل كان يعارِضُني القرآنَ» أي يعرض على جبريل ما أنزل عليه من القرءان «كلَّ سنة مرةً، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أُراه إلا حضر أجلي»…. رأى النبي صلى الله عليه وسلم هذا علامة على اقتراب أجله…
فقد الأب صعب… فكيف إذا كان ذلك الأب رسول الله…عندما توفي صلى الله عليه وسلم، أذهل فاطمةَ الحزنُ ككثير غيرها من الصحابة، فقالت من شدة حزنها تخاطب أنس، أنس بن مالك، مَن خدم النبي صلى الله عليه وسلم… قالت -غير معترضة عليه إنما مستفسرة-: يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله… أطابت أنفسكم أن دفنتم رسول الله صلى الله عليه وسلم في التراب ورجعتم… أهلتم عليه التراب؟ على رسول الله؟ لا تعترض عليهم…. لقد علمها أبوها صلى الله عليه وسلم أن الموت حق… وقد ماتت أمها وكلُّ إخوتها وأخواتها…. لا تعترض…. لكن المصيبة كبيرة….
ومَا رئيت فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضاحكة بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وسلم حتى ماتت بعده بعد ستة أشهر رضي الله عنها…
ليست فاطمة وحدها من غيَّرتها وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم…. المدينةُ أظلمت يوم مات صلى الله عليه وسلم… قال أنس: “وما نفضنا أيديَنا عن التراب وإنَّا لفي دفنه حتى أنْكَرْنا قلوبَنا”…قبل أن ننتهي من دفنه ونفض التراب عن أيدينا أنكرنا قلوبنا…. شعروا بتغير في قلوبهم….. تغيرت حال قلوبهم بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم تبق على ما كانت من الرقة والصفاء لانقطاع الوحي وبركة الصحبة….
وهذه أم أيمن، حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم، من كانت مع أمه حين ماتت وهي راجعة من زياة أخواله في المدينة فرجعت بالنبي صلى الله عليه وسلم صغيرًا وأوصلته لجده عبد المطلب. كان النبي صلى الله عليه وسلم يزروها ويكرمها.. فقال أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: “انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما انتهينا إليها بكت… رأت صاحبي رسول الله، وليس معهما رسول الله، وهو الذي كان يقول: “أم أيمن أمي بعد أمي”…. بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: “ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم”…. أنا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم… قالت: “ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء”… حرمنا هذه النعمة الجليلة والبركة العظيمة… “فجعلا يبكيان معها”…
نعم، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانقطع الوحي بموته صلى الله عليه وسلم، لكن كانت وفاته بعد أن ترك أصحابه على محجة بيضاء، ليلها كنهارها… وقد قال صلى الله عليه وسلم: “إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي”… فمشى من وفقه الله على الاشتغال بتعلم كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وتعليم الناس ذلك….
مشوا على تتبع ءاثاره صلى الله عليه وسلم والدفاع عن سنته ونقل ما تعلموه منه صلى الله عليه وسلم…. وكان للنساء في هذا حظ كبير…. عائشة روت أكثر من ألفي حديث… وأم سلمة روت المئات، وغيرها وغيرها، روين ونقلن وعلَّمن ما تعلَّمنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم…. فكنَّ مشاركات لإخوانهن الرجال في نشر دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا فعل من بعدهم ومن بعدهم ممن وفقهم الله ليكونوا جزءًا من هذه السلسلة، إلى أن يلقوا بإذن الله نبيهم على الحوض يوم القيامة… صلى الله عليه وسلم…