قالت ليس لك ذلك يا أمير المؤمنين
لا يخفى على من عنده معرفة بالصحابة ما يذكر من قوة عمر رضي الله عنه وشدته وصلابته…. بل قد ضحك النبي صلى الله عليه وسلم من هيبة بعض النساء منه… ففي البخاري أن عمر استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده نسوة من قريش يسألنه ويستكثرنه، فلما استأذن عمر تبادرن الحجاب، تسارعن للاختباء، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل والنبي صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال: أضحك الله سنك يا رسول الله، بأبي أنت وأمي؟ فقال: «عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، لما سمعن صوتك تبادَرْنَ الحجاب» فقال عمر: أنت أحق أن يهبن يا رسول الله، ثم أقبل عليهن، فقال: “أَتَهَبْنَنِي ولم تَهَبْنَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلن: إنك أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم… النبي لم يكن فظا ولا غليظا، وسيدنا عمر كان فيه شدة… قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان سالكا فجًّا» أي طريقًا «إلا سلك فجًّا غير فجِّك»… لا يسلك الطريق التي تسلكها….
قام رضي الله في يوم من خلافته يخطب بالمسلمين، حمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: “ألا لا تُغالوا في صداق النساء، أي مهورهن، أي لا تجعلوا المهر شيئًا كثيرًا جدًّا، قال: “فإنه لا يبلغني عن أحد ساق أكثر من شيء ساقه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سيق إليه” دفع مهرًا أكثر مما دفع النبي صلى الله عليه وسلم أو دفع لبنت من بناته “إلا جعلتُ فضلَ ذلك في بيت المال” أي ءاخذ الزائد وأضعه في بيت المال، ثم نزل، فعرضت له امرأة من قريب، امرأة فقيهة، فقالت: “يا أمير المؤمنين ليس لك ذلك” … قالت لأمير المؤمنين، الذي هو عمر ابن الخطاب ليس لك ذلك، قالت: “أكتاب الله تعالى أحق أن يتبع أو قولك؟” فما كان من سيدنا عمر إلا أن قال فورًا: “بل كتاب الله تعالى، فما ذاك؟”… ما قال لها: “وما أدراك انت”…. ما قال لها: “كيف تجرئين أن تخاطبيني هكذا”… فورًا قال بل كتاب الله فما ذاك؟ قالت: نهيت الناس آنفًا أن يغالوا في صداق النساء… أي وقلت إنك ستأخذ الزائد… والله تعالى يقول في كتابه: {وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا} “وءاتيتم احداهن قنطارا” أي مالا عظيما “فلا تأخذوا منه شيئًا أتأخذونه بهتانًا وإثمًا مبينا”…
أدرك عمر رضي الله عنه أن ما قاله مخالف للآية، فتراجع فورًا عن قوله…. أطرق وقال رضي الله عنه: ” كل أحد أفقه من عمر” مرتين أو ثلاثا، “أصابت امرأة وأخطأ عمر”… ثم رجع إلى المنبر فقال للناس: “إني كنت نهيتكم أن تغالوا في صداق النساء ألا فليفعل رجل في ماله ما بدا له”..
عجيب كيف يصور البعض مجتمع المسلمين بأنه يسلُب المرأة صوتها ويقمعها… أي امرأة مقهورة مقموعة مسلوبة الشخصية تجرؤ أن تقول لأمير المؤمنين، عمر بن الخطاب، ليس لك ذلك يا أمير المؤمنين… ليس هذا فحسب، بل يقف عمر عند قولها، ويستفسر منها، ثم يرجع إلى المنبر ليبين الصواب، ويقول متواضعًا “كل أحد أفقه من عمر”…. ما هذه القوة من المرأة، وما هذا التواضع من عمر…
عرف سيدنا عمر أن تراجعه أمام الناس لا يذهب احترام الناس له ولا يؤثر في هيبته، بل صاحب الفهم يعظم من يحرص على بيان الحق، ولا يخجل من قول أخطأت…. وقد كان عمر رضي الله عنه وقافًا عند حدود الله…. ويعلم ما الذي يرفع الرجل وما الذي يضعه… ما الذي يكرمه وما الذي يهينه….
لما قدم عمر بن الخطاب الشام لقيه الجنود وعليه إزار وخفان وعمامة وهو آخذ برأس راحلته يخوض الماء وقد خلع خفيه وجعلهما تحت إبطيه قالوا له يا أمير المؤمنين الآن يلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على هذه الحالة قال عمر إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلن نلتمس العز بغيره…. معناه هذا ليس شيئًا فيه ذل… عزنا نحن ليس بالثياب والأموال، بل بالاسلام والالتزام بأحكامه، ولهذا لم يتحرج من الرجوع عن خطئه لما بينته له امرأة…
لعل هذه المرأة، بوقوفها وبيانها الحق وعدم خوفها، ذكرت سيدنا عمر بأخته، فاطمة بنت الخطاب، التي كانت هي ووزجها، سعيد بن زيد، من السابقين الأولين إلى الإسلام… أسلمت رضي الله عنها قبل سيدنا عمر، وكان سيدنا عمر معاديًا للرسول حينها… فلما عرف عمر بإسلامها ذهب إليها وهو غضبان… كانت مع زوجها ومعهم رجلان يقرؤون القرءان، دخل عمر، ضرب زوجها ثم ضربها حتى أدماها، فقابلت شدته وضربه لها بكلمات وقعت موقعًا منه، حيث قالت وهي غضبى: وإن كان الحق في غير دينك؟ ما كنت فاعلًا فافعل فقد أسلمت… إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله… ثباتٌ هزَّ عمر رضي الله عنه ودفعه إلى السؤال عن هذا الدين، فما كان منه إلا أن أسلم من يومه….
عرف عمر معنى الرجولة، ومتى يحسن به استخدام الشدة… ومتى يصر على موقفه ومتى يتراجع… وضع الأمور في مواضعها… كما أن سكوت وحياء الصحابيات الجليلات كان في موضعه، وحيث احتيج للكلام تكلمن وتمسكن بمواقفهن الموافقة للدين بلا تردد…