بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و صلى الله على سيدنا محمد وعلى اله و صحبه الطيبين الطاهرين سنكمل إن شاء الله تعالى في تفسير سورة المدثر
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (كل نفس بما كسبت رهينة) أي مرتهنة بكسبها, كل نفس مرتهنة بكسبها كما قال الله عز و جل في سورة الطور (كل امرئ بما كسب رهين) و معنى رهين مرهون فنفس المؤمن مرهونة بعمله و تجازى به, ثم قال الله عز و جل (إلا أصحاب اليمين) أي إلا المسلمين فإنهم فكوا رقابهم بالطاعة كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق. فالمسلمون المخلصون ليسوا بمرتهنين لأنهم أدوا ما كان عليهم. (في جنات يتساءلون عن المجرمين) أي إن أصحاب اليمين في جنات يتساءلون هم في جنات و نعيم, يتساءلون أي يسأل بعضهم بعضا عن المجرمين عن الكافرين. (ما سلككم في سقر) ما سلككم أي أيُّ شيء أدخلكم في سقر أي جهنم, سؤالهم هذا هو سؤال توبيخ لهم هو سؤال تحقير و إلا فهم عالمون ما الذي أدخلهم النار يعلم المسلمون ما الذي أدخل الكافرين النار, فهذا السؤال هو سؤال توبيخ فيجيبهم الكفار كما قال الله عز و جل (قالوا لم نكن من المصلين) قالوا أي قال المجرمون و هم الكافرون قالوا للمسلمين لم نك من المصلين أي لم نكن من المؤمنين الذين يصلّون فكان يجب عليهم أن يؤمنوا و يصلّوا. (و لم نك نطعم المسكين) أي لم نتصدق على المسكين.( و كنا نخوض مع الخائضين) معناه قالوا لهم كنا نخوض أي في الباطل مع الخائضين فيه. (و كنا نكذب بيوم الدين) أي كنا نكذب بيوم القيامة, كنا نكذب بيوم الحساب و الجزاء. (حتى أتانا اليقين) أي حتى أتانا الموت. إذا يجيبهم الكفار بأنهم كانوا في الدنيا مكذبين, كانوا غير مؤمنين, ما كانوا من المؤمنين المصلين و لم يكونوا يطعمون المسكين لم يتصدقوا على المسكين و كانوا يكذبون بالحساب يكذبون بيوم القيامة حتى أتاهم الموت. (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) أي لا شفاعة لهم لأن الشفاعة إنما تكون لمن آمن بالله و رسوله و ليس المعنى أن المكذبين بيوم الدين يشفع لهم يوم القيامة فلا تنفع شفاعة من يشفع لهم و إنما المعنى نفي الشفاعة للكفار فمعنى فما تنفعهم شفاعة الشافعين أي لا أحد يشفع لهم يوم القيامة. ثم وبخ الله المشركين المكذبين لمحمد صلى الله عليه و سلم فقال (فما لهم عن التذكرة معرضين) أي فما لهؤلاء المشركين عن مواعظ القرآن معرضين لا يستمعون لها فيتعظوا و يعتبروا ثم شبههم الله بالحمر المستنفرة. شبههم الله عز و جل بالحمر المستنفرة في شدة إعراضهم و نفارهم عن الإيمان و آيات القرآن فقال الله عز و جل (كأنهم حمر مستنفرة) كأن هؤلاء الكفار في فرارهم من محمد صلى الله عليه و سلم حمر و هي الحمر الوحشية هذا جمع حمار مستنفرة أي نافرة. (فرت من قسورة) أي فرت نفرت و هربت من قسورة أي من رماة يرمونها أو من الأسد. القسورة من قسر و القسر هو القهر والغلبة فمن العلماء من قال القسورة معناه الرماة الذين يرمون الحمر الوحشية ومن العلماء من قال القسورة هو الأسد, انظروا بما شبه هؤلاء الكفار شبهوا في إعراضهم عن القرآن و إعراضهم عن استماع الذكر بحمر جدّت في نفارها و ذلك لأن الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت فكذلك هؤلاء المشركون إذا سمعوا النبي محمدا صلى الله عليه و سلم يقرأ القرآن هربوا منه و أخرج ابن المنذر عن السُّدّي أنه قال قالوا يعني المشركين لإن كان محمد صادقا فليصبح تحت رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءة و أمنة من النار, هم طلبوا ذلك من باب الاستهزاء فأنزل الله عز و جل (بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشّرة) معناه يريد كل امرئ منهم أي من هؤلاء المعرضين عن آيات الله أن يؤتى صحفا منشرة أرادوا أن يُنزَل على كل واحد منهم كتاب فيه من الله عز و جل إلى فلان ابن فلان و كانوا يقولون إن كان محمد صادقا فليصبح عند كل رجل منا صحيفة فيها براءته و أمنه من النار, و قوله منشرة أي منشورة غير مطوية تقرأ كالكتب التي يتكاتب بها أو كتبت في السماء نزلت بها الملائكة ساعة كتبت رطبة لم تطوى بعد, و هذا من زيادة تعنتهم فقال الله عز و جل (كلا بل لا يخافون الآخرة) كلا أي لا يكون ذلك و هذا ردع عما أرادوه من إقتراح الآيات ليس الأمر كما يزعمون من أنهم لو أتوا صحفا منشرة صدقوا بل هم كافرون هم معاندون فقال الله عز و جل (بل لا يخافون الآخرة) لا يخافون عقاب الله و لا يصدقون بالبعث و الثواب و العقاب فذلك الذي دعاهم إلى الإعراض عن التذكرة و هون عليهم ترك الاستماع لما جاء به النبي صلى الله عليه و سلم, ثم قال الله عز و جل (كلا إنه تذكرة) كلا ردع عن إعراضهم عن التذكرة أي ليس كما يقول هؤلاء المشركون في هذا القرآن من أنه سحر يؤثر و أنه قول البشر و لكن القرآن تذكرة أي موعظة من الله لخلقه ذكرهم به. (فمن شاء ذكره) أي من شاء من عباد الله الذين ذكرهم الله بهذا القرآن ذكره أي اتعظ به فإنما يعود نفع ذلك عليه. (و ما يذكرون إلا أن يشاء الله) أي و ما يتعظون إلا أن يشاء الله أي لا يقدرون على الاتعاظ و التذكر إلا بمشيئة الله ذلك لهم و هذا تصريح بأن فعل العبد بمشيئة الله تعالى كما هو مذهب أهل السنة و الجماعة. (هو أهل التقوى و أهل المغفرة) أي إن الله عز و جل أهل أن يتقى بأداء ما فرض الله و اجتناب ما نهى عنه سبحانه و تعالى , و أهل المغفرة أي أهل أن يغفر لمن تاب من ذنوبه, فنسأل الله عز و جل أن يغفر لنا ذنوبنا و إسرافنا في أمرنا و أن يحسن ختامنا جميعا و أن يحشرنا يوم القيامة مع النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين فيوم القيامة آتٍ لا ريب فيه.
فدرسنا القادم إن شاء الله عز و جل سيكون في تفسير سورة القيامة نسأل الله عز و جل أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه و الله أعلم و أحكم.